نازلة كورونا!


 


درست علوم الميكروبات في البكالوريوس، وحصلت على الماجستير فيها، ودرست الكيمياء الحيوية كذلك / ودرست العلوم السياسية، وأنهيت تمهيدي الماجستير في العلاقات الدولية / ودرست الشريعة في ‏كلية دار العلوم.‏
ثم بعد كل ذلك لم أجد في نفسي منذ بداية أزمة الكورونا تلك معشار ما عند بعض الناس من كلام وتحليلات ‏بيولوجية وميكروبية وسياسية ودولية وشرعية بل وفلسفية! ‏
وقد دهِشت حينا من اليقين المُطلق عند جمهرة المتكلمين، وذهبت لأقرأ الأوراق العلمية الصادرة في تلك ‏النازلة فما وجدت إلا النزر اليسير من القطع، فالجميع غارق في الشك بكل موضع ومفهوم ومتحير في أدنى ‏الحقائق المتعلقة بهذا الفيروس كسبل انتشاره. بل إن بعض الحقائق المتداولة التي يتعامل معها الجميع بيقين، ‏مثل انتقال الفيروس من أكل الخفافيش ومن سوق وهان = مشكوك فيها ابتداءً، إذ قيل إن أولى الحالات لم ‏تكن تتعامل مع هذا السوق وذاك الطعام!‏
وأنا عارف بحيرة المجتمع العلمي، معتاد عليها؛ وأعلم أن ألف نظرية لا تعني سوى غياب أي معرفة دقيقة أو أي حقيقة ثابتة سوى العموميات / وحدهم غير العارفين بالمجتمع العلمي هم من يعتقدون أن أولئك الكهنة في المعامل ‏على الأمراض قادرون وفي الميكروبات متمكنون! 
إنما ضعف العلم من قوة الله وتعقيد خلقه ثم وهن الإنسان؛ وقوة الإنسان ‏من توهمه وخياله وظنه في نفسه العلو. فقط من فغروا أفواههم قبالة ترهات العلمويين الذين سادوا الشباب طوال ‏السنوات الأخيرة هم من حسبوا كمال المتن في أعجاز نخل خاوية!‏
فمن أين جاء الناس بكل ذاك الحديث عن أدق خصائص هذا الفيروس؟ ثم كل ذلك اليقين! أواه ‏من اليقين! يقين راسوخ حتى إنهم يؤسسون فوقه ملاحاة وخصومة!
أما عن التحليلات السياسية واستشراف المستقبل الدولي فحدث ولا حرج!
من تفسيرات وحدة التحليل ‏الرئيسية فيها هي المؤامرة المحضة لا غير! إلى استشراف مستقبل يقوم كله على أماني وأحلام البعض، ‏المستقاة من أفلام نهاية العالم أو أحاديث فتنة آخر الزمان! 
من المتآمر؟ الصين أم أمريكا؟ أتبدأ الصين ‏مؤامرتها في قلب بلادها؟ أم أن أمريكا تتآمر على الصين بإصابة ألوف الناس في طول أمريكا وعرضها، وبنشر الذعر عند ‏أرؤسها، وبالتسبب في حرج الحالة الصحية لحليفها الأبدي بريطانيا من أعلى رأس لأصغر ظفر؟! من المتآمر؟!
ثم تكون ‏المؤامرة بفيروس؟ أنشط خلق الله تحورا وتشكلا! هب أن معك علاجه، علاج هذه الصورة منه، أتحسب أنه ‏بعد شهر وإصابة الملايين سيكون هو ذاته الذي أنتجته وعرفت لقاحه؟ هذا أخطر سلاح في الحرب ‏البيولوجية ولا نعرف دولة في التاريخ اجترأت على استعماله بتوسع! الكل يعرف أنك ستطلق كلبا عقورا ‏سينهشك أنت نفسك بعد دقيقتين!‏
أما عن الإفتاء الشرعي في كل شيء فقصة أخرى! نعم نرى بأعيننا الآن ما هو معروف لدينا منذ سنوات، ‏أن القابضين على ألسنة الشريعة في مصر قلوبهم أنجس من قلب ابن سلول، إلا أن كثيرا مما قالوه فيه ‏الحق بذاته، مثل منع الجماعات مطلقا. 
والعديد من جوانب النازلة المعاصرة مختلف عن نوازل الأعصر ‏القديمة؛ فمن ذلك أن مصدر الطواعين السالفة كان مجهولا. كما أن أسلوب التعامل المجتمعي معه كله من ‏المستحدثات إلا القليل = وعليه كان من الأحسن لو أقلَّ الناس من النُكر المُطلق!
لكن من أفتى في البيولوجيا ‏والسياسة الدولية بعشرات الأقوال والمقالات دون دراسة، ما يمنعه بأن يستكمل الإفتاء في هذا الشأن؟!‏
فكنت أرى كل ذلك وأعجب، ولا أنكر أني سعدت بما رأيته عند البعض من حب طلب العلم حقيقة، والشغف بتثقيف ‏النفس دون الهلع من حاجز عدم التخصص، ففي أشهر قليلة صرت أثق في كلام بعض من لم يتخصصوا، لأنهم طلبوا العلم من مظانه ومن ‏الدراسات والمصادر القوية، ولست ممن يهزأون بمن تعلم وحده لمجرد عدم أكاديميته، فقد شارفت قضاء ربع ال‏قرن بين الجامعات والكليات المتنوعة، وأعرف المهازل والمساخر، وأدرك كذب كل من انتسب ‏إليها ثم فاخر بها وسخر ممن لم يدخلها! وما تعلمته من خارج الجامعات أضعاف ما تعلمته فيها / غير أن ‏أولئك الأفذاذ المنفردين ندرة، والغالب لا يفرق بينهم وبين غيرهم ممن يتكلمون في ألف شأن بألف فتوى!‏
بيولوجيا: هذا الفيروس نازلة كبرى غير مسبوقة، ولو أصاب خمسة بلايين من السبعة الأحياء على هذا ‏الكوكب - خاصةً أن انتقاله مذهل وسريع ومجهول الكيفية - ثم ظلت نسبة الوفيات بين 4 - 9% فهذا معناه ‏وفاة ما يزيد عن 200 مليون إنسان! أي أكبر كارثة مدمرة في تاريخ البشر! لماذا العالم مذعور؟!‏
‏ كما أن تلك النسب كلها في دول العالم الثري؛ فماذا سيجري في الدول الفقيرة والفاسدة؟ وكيف ستكون ‏الأرقام حينها؟ ثم ما هي علة تباطؤه في الشرق الأوسط ما عدا إيران وبعض مناطق العالم الأخرى؟ لماذا ‏يهرول هناك ويسير متثاقلا هنا؟! كل هذا لا أقول إنه يحتاج لدراسات مكثفة.. بل أقول إن هذا الوباء قد ينتهي ‏وتمر العقود ولا نعلم له إجابة! وهذا مقبول معروف علميا، محظور منكور علمويا!‏
سياسيا: الشيء المؤكد الوحيد أن هناك تداعيات ستحدث. لكن في أي اتجاه؟ لماذا يصر البعض أن أوروبا ‏والاتحاد الأوروبي قد انتهى أو أوشك على الغرق؟ لم لا يكون ما يحدث الآن من خراب اقتصادي أدعى لأن يتماسك ‏الأوروبيون بعد تلك الكارثة، للمصلحة البحتة لا للإنسانيات، إذ أن هشاشة اقتصاداتهم حينها قد تدعوهم ‏للتحالف؟ وربما تدعوهم لمحاربة بعضهم البعض! وربما تدفعهم لمحاربة العالم الأفقر كي ينهشوا من لحمه ‏كما اعتادوا! وربما يعجزون عن محاربة العالم الأفقر لأن العالم مُقسَّم بالفعل بين أمريكا ونفوذ روسيا ‏والصين! كل هذه الاحتمالات قائمة! فمن أين كل تلك التفاسير اليقينية والاستشرافات الجازمة؟
أما شرعيا: فمثل البيولوجيا.. هذه نازلة كبرى.. نزل بالمسلمين ما هو أشد منها، نعم، هذا حق.. لكن الفارق ‏في أننا نقابل هذا الوباء / الطاعون الجديد بمعارف مختلفة.. وبالتالي الاحتجاج بفتاوى سالفة باعتبارها ‏حجة في نفسها غير صحيح.. ويعرف الشافعية مثلا أن الماء المشمس كان مكروها في المذهب، لاعتقاد ‏الناس والفقهاء منهم في قديم الزمن أنه يسبب البرص، قبل أن يدحض العلم تلك الخرافة؛ فليست كل فتوى ‏مذكورة في كتب الفقه تُستخرج للاحتجاج بها بذاتها دون أي اعتبار.‏
ثم أني بعد كل ذلك كنت أحيانا أسائل نفسي: ما بالك لا تقول برأي؟ أنت درست كل هذا! ثم تجيبني نفسي بسؤال آخر: أيمكن ‏أن يكون سكوتي عن القول برأي واستشراف وتفسير، علته أنني درست كل هذا؟!
وليس هذا مدحا في ذاته! 
ويعلم دارسو السياسة أن إحدي أكبر معوقات صنع القرار الخارجي هو كثرة المعلومات فوق المطلوب! وأن ‏الأمثلة تُعرِّفنا بأن القائد السياسي الذي لا يملك مؤسسات استخباراتية كبرى ومعقدة تزوده بألوف المعلومات ‏كثيرا ما يكون أحزم لقراره وأوفق للرشاد من نظيره الذي يملك كل ذلك السلطان ويعرف عنه حتى مواعيد دخوله الحمام! 
إذا ‏علمت عن شيء أكثر من اللازم، ستعجز عن التيقن بصحة توقعك أو قرارك، وبالتالي ستقف حائرا وتطيل!
وهذا هو علة صبر بعض ‏الأزواج على بعضهم؛ فأنت قد تسمع عن واقعة بين زوجين ترى فيها الحق جليا، وأن الواجب على ‏أحدهما هو الفعل الحازم كذا، ثم تعجب أنه لا يُتخذ أبدا، إذ أن كلا منهما أعلم بدواخل الآخر، وأفقه بدقائق ‏حياتهما، وأخبر بنفوسهما، وكل هذا يُعقِّد القرار، ويحول دون اتخاذه لعمر كامل! / وعدم إدراك ذلك من بلايا المشورات الإنترنتية ‏السريعة، ورزايا صفحات ومجموعات النسوة والرجال ومشايخ قصف الجبهات، الذين يُفتون في العِظام من الأمور، بسطر أو سطرين يُعرفانهم بحياة المستفتي! وقل مثل هذا حتى في كرة ‏القدم، فقد قال فينجر، المدرب المشهور في هذا العالم، إن أحد مشاكل الوقت الحاضر هو امتلاك المدرب ‏المعرفة الدقيقة عن أدنى تفصيل في الفريق الذي سيواجهه، وهذا يُعقِّد القرار ويسبب الارتباك والحيرة في اختيار الخطة الأنسب!‏
إن الحزم في القرار للجاهل بالمُفصَّلات أيسر من شربة الماء، والتردد فيه من سمات العارفين! سواء في ‏هذا رئيس الجمهورية، والشاب الذي يفكر في الزواج من مألوفة لديه!‏
أيكون ترددك إذن أحسن، أم يقينك؟ 
ولا أنكر أنه حتى هذا السؤال يحيرني!‏
والله المستعان!‏

أبريل 2020

Post a Comment