بريطانيا والبريكزيت: جذر الشك والاستعلاء.

 

بسم الله،
نبحث في مقالنا ذاك، السبب التاريخي للخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، وهو الحدث الذي نزل بالكثيرين نائبة وداهية، وأولهم البريطانيين أنفسهم، خاصةً أولئك الذين لم يلحظوا تضيُّف شمس وجودهم الأوروبي يوما تلو الآخر، ولم يحسبوا لذاك اليوم حسابا.
ولم يكن ذاك، حين التحقيق، بالحادث المفاجئ تمام المفاجأة، إذ أن علاقة المملكة المتحدة بالاتحاد الأوروبي ظلت دوما بين أجيج وخمود، تضطرم أحيانا وتكبو حينا، ولم تصفُ يوما ولم تخلُ من كدر. وقد ظلت الحكومات البريطانية المتعاقبة خلال النصف قرن الماضي -عدا عقد واحد علا فيه شأن حزب العمال وبلير- تنتظر السانح والبارح لإبداء امتعاضها وتشككها من فكرة الاتحاد كافة، أو من كتلتيه الرئيسيتين على الأقل، ألمانيا وفرنسا / وعلى الجانب الآخر، لم يعرف الهوى يوما طريق العلاقة بين الطرفين، إذ تراوحت بين مراتب السُّخط، فقد كان (الشك) دوما عمود تلك العلاقة بين الطرفين.
وسأوجز ها هنا تاريخ بريطانيا والاتحاد، منذ نصف القرن الماضي، مصداقا لحديثنا عن (الشك)، باعتباره العامل التاريخي الأول في السعي للخروج.


1- بريطانيا وأوروبا، الاستعلاء والشك.
من الطرائف، أن فكرة بعث (أوروبا موحدة) تلملم شعثها المتناثر في أعقاب الحرب العالمية الثانية، كيما تحاذي أوروبا عملاقي العالم الصاعدين في ذاك الوقت: الاتحاد السوفيتي وأمريكا = كانت تشغل بال وينستون تشرشل، إذ أنه كان يؤمن بأن بريطانيا يجب أن تكون مركزا لثلاث دوائر: الكومنولث البريطاني، والعلاقة الأمريكية الأوروبية، وأوروبا ذاتها [1].
ولم يكن ذاك الفِكر منه نتاج ما نزل بهم من هرج الحرب ولأوائها فقط، بل كان قد مرن عليه واعتاد الحديث عنه منذ الثلاثينيات، حتى إذا حملت أوروبا نفسها على المهالك، وتهوَّكت في هول الفتن والمعارك، ثم أنجاها الأمريكيون بوفرة عتادهم، خرج تشرشل يطلب من أوروبا أن تكون (ولايات متحدة أوروبية)، مستعملا سقطة الحرب مساغا إلى مرامه.
وقد كان طِلابه حينها أبيًّا عصيًّا على أوروبا، وعلى بريطانيا ذاتها، التي كان يقودها حين إعلانه ذاك، كليمنت أتلي، فلم يكن تشرشل حينئذٍ إلا زعيما لحزب بريطاني معارض، بعدما خلي من سلطان الوزارة، ولم ينضوِ إليه إلا زمرة لا نفاذ لها.
دعا تشرشل، في عام 1946، إلى أن ترجع أوروبا إلى منزعها، وتصبح (أسرة) من جديد، حتى لُقِّب بأبي أوروبا، ونُسب إليه فضل إنشاء الوحدة وأُرجِعَت إليه مكارمها [2]؛ لكن شغفه الصادق، كان مصحوبا بشعور خَفِيَ حينها، وهو الإيمان بالتفوق البريطاني، وبأنها لن تكون إلا كبير العائلة، وربها، كما اعتادت في عصر تعدد القوى، فتكون رمانة الميزان، لا كفة من كفتيه، في كل علاقة داخلية بأوروبا. 
إنه شعور الاستثنائية الإنجليزية Exceptionalism UK الذي لم يكن تشرشل بعيدا عن الإيمان به، إذ أنه هو ذاته القائل سلفًا: (إننا مع أوروبا، لكننا لسنا منها) وكذلك: (إننا مرتبطون بأوروبا، لكننا لا نُكوِّنها)[3]!
تلك النبرة البريطانية، واستبطان روح الاستعلاء على القارة، كانت ذات أثر ضخم في كافة ما جرى بعد ذلك من أحداث، إذ أن إحجام الحكومة الإنجليزية عن الولوج إلى أوروبا متكتلة، ملَّك زمام المبادرة لفرنسا وألمانيا، كي يكونا قلب البناء الجديد، وربابنة العمل فيه، خاصةً عندما أحجم تشرشل بعدما عاد إلى السلطة مرة أخرى في 1951، عن الاشتراك في اتحاد الفحم والصلب الأوروبي، المظهر الأول للتكامل الأوروبي الوحدوي الحقيقي، ثم تلا ذلك إحجام أنتوني إيدن عن الدخول في المجموعة الاقتصادية الأوروبية، المُنشئة بمعاهدة روما لعام 57، وقال إيدن عن ذلك: (إن الانضمام إلى اتحاد على القارة الأوروبية، أمر نعرف في قرارة أنفسنا أننا لا نستطيع الإقدام عليه)[4]!
ولم يستفق البريطانيون قبل منتصف حقبة الستينيات من سكرتهم، حين تناوبتهم زلازل انهيار الجنيه الاسترليني خارج أوروبا والضربات الاقتصادية التي لاحقت حكومة هارولد ويلسون، ما أعاد إلى الأذهان أن الانضمام إلى أوروبا لا يكونون فيها زعيما ومرشدا، احتمال ممكن، بل طوق نجاة للاقتصاد، لكنهم اصطدموا بديجول، الذي لم يكن ليترك الفرصة لترسيخ زعامته للنسق الأوروبي بنبذ بريطانيا، قبل أن تنجح حكومة إدوارد هيث في الانضمام أخيرا عام 1973، مع أول اتساع للاتحاد. ثم مع عودة ويلسون في 74 أعاد التفاوض حول شروط الانضمام، قبل أن يستفتي الشعب على الاتحاد، وجاءت النتيجة بالموافقة لكن مع نسبة معارضة بلغت الثلث[5].
كانت تلك قصة الانضمام الإنجليزي للاتحاد، أما قصة المتاعب التي أثارتها إنجلترا في الذروة والغارب، فتتلخص في النفور الدائم من محاولات فرنسا وألمانيا التوحُّد الأوروبي الاقتصادي والسياسي، فمنذ رفض جيمس كالاهان، رئيس الوزراء البريطاني المنتخب في 79، للانضمام إلى النظام النقدي الأوروبي، مرورا بتاتشر، التي كانت متعكرة المزاج من المساهمة البريطانية المالية في ميزانية المجموعة، ورافضة بلا تحفظ لفكرة التكامل الإيجابي التي تنصُّ على الوحدة الاقتصادية والمالية الكاملة، ما وصفته بأنه صناعة قبيحة لدولة أوروبية فوقية Superstate، وهو الأمر المرفوض تماما من بريطانيا، لإمكان إلغاء هوية الدول الأعضاء ومحوها، تقول تاتشر في 1988: (إن أوروبا ستكون قوية لأن فرنسا موجودة بها كفرنسا، وإسبانيا كإسبانيا، وبريطانيا كبريطانيا، لكل منها عاداتها وتقاليدها وهويتها، ومحاولة صبها كلها في قالب واحد ودمجها في شخصية أوروبية واحدة، سيكون ضربا من الحماقة)[6]، وصولا إلى حقبة ما بعد بلير، واعتلاء جوردون براون كرسي السلطة في 2007، وهو الاقتصادي الموالي لمفاهيم السوق الحرة، والنافر من التكامل الأوروبي ومفهوم اليورو = كانت بريطانيا دوما متشككة ونازعة إلى اجتناب التكامل الحقيقي مع الاتحاد الأوروبي.
ولا يمكن تجاهل أن بريطانيا، كانت دوما كلما استقرت ماليا، تشعر بأنها في موقف أقوى وتتشدد في علاقتها التكاملية مع أوروبا، وقد حدث كثيرا أن زادت الفوارق المادية بينها وبين باقي تكتلات القارة، فبين 1996 و2005، على سبيل المثال، كان معدل النمو السنوي للناتج المحلي يصل إلى 2.8%، مقابل 2 فقط في منطقة اليورو، و1.4% في ألمانيا ذاتها، وكانت بريطانيا قد أنشأت أنموذجا للاقتصاد الحديث، غير المُتحلِّق حول الصناعة، اقتصاد ما بعد صناعي عماده المال والخدمات، بينما كانت باقي القارة ما زالت معتمدة على الصناعة في اقتصادها [7].
هكذا كانت علاقة بريطانيا مع الاتحاد الأوروبي دائمة الكدر، متلاحقة النزاع، عالية الاشتجار، ولم تكن يوما صافية بإطلاقها = فالقول بأن انتشار فكر البريكست جديد، أو عزوه كاملًا إلى اليمين الوطني المتطرف، قول بَهَرج، لا صدق له، بل كانت كافة النخب البريطانية من كافة التوجهات، تجأر بالشكاية من الوحدة والتكتل الكامل، ولا تقرب أوروبا إلا حذرا.

 2- الاتحاد الأوروبي وبريطانيا، النُّهزة والقلق.
لم يكن الأوروبيون أقل نفورا من بريطانيا، خاصةً فرنسا، التي سعت منذ لحظة البدء في قيادة وزعامة النسق الأوروبي الموحد، مجابهةً للحلف الأنجلوساكسوني الأطلسي بين بريطانيا وأمريكا. وكانت لحظة سعي بريطانيا للدخول في الاتحاد، فرصة مواتية لديجول كي يمارس مكتسباته الأوروبية طوال مرحلة تردد بريطانيا، فقد جابه هذا المسعى، ورفض ولوج بريطانيا إلى الاتحاد، حتى خرجت شائعة بأنه قال: إنني أريد أن تدخل بريطانيا إلى السوق المشتركة بعدما تخلع ملابسها كاملة إلى العُري Stripped naked، وهو ما ألجأه لتكذيب هذا القول -وإن كان قد دلَّت فعاله على إيمانه بهذا- في مؤتمر صحفي، أعلن فيه أن معارضته لدخول بريطانيا لها أسباب موضوعية، منها عدم تطابق النظام الاقتصادي الإنجليزي مع النظام المعمول به في أوروبا، فهم على سبيل المثال قد اعتادوا شراء الطعام بأثمان بخسة من كافة دول العالم، ويرفضون خروج رؤوس المال من بلادهم ويمنعون عدم تمركزها في بريطانيا، إضافةً للخلل الدائم في ميزان المدفوعات [8]
لكن الحقيقة أن ديجول، وسط ادعاءات متكررة بأن المملكة المتحدة ليست أوروبية بما يكفي، استخدم الفيتو مرتين لرفض طلب بريطانيا الانضمام إلى المجموعة الأوروبية، في عام 63 ثم 67، وهو ما فُسِّر بأنه ليس إلا تدعيما فرنسيا لزعامتها المجموعة وأوروبا[9]
 لكن بعد استقالة ديجول في 69، حدثت الانفراجة، فقد شغل بال الفرنسيين الصعود المستمر لألمانيا، واضطروا للنظر غربا، إلى إنجلترا، وجذبوها إليهم، في محاولة لموازنة الصعود الجيرماني، أي أن الدخول البريطاني كان ذو أسباب خارجية، متعلق بالتوازن الأوروبي، ما يُذكِّر بعصور توازن القوى الكبرى الأوروبية، ودور بريطانيا.
لكن أوروبا لم تتوقف هي الأخرى يوما عن الشك في إنجلترا، ولا أمثل من تخوُّف الأوروبيين من السعي الإنجليزي الحثيث لتوسُّع الاتحاد، والذي أصابهم بالشك والرهبة، لعلمهم بكراهية بريطانيا الباطنة لفكرة أوروبا كلها، وقد كان مكمن ارتيابهم، الشعور بأن بريطانيا في سعيها للتوسعة، كانت ترغب حقيقةً في إزالة فكرة أوروبا موحدة ثقافيا وسياسيا، للأبد[10]!
لم تكن أوروبا تنظر إلى إنجلترا يوما إلا بريبة وقلق، وكانت فرنسا دوما تتنافس خفيةً على الزعامة، وتنظر لإنجلترا باعتبارها الشريك اللدود لموازنة الجيرمان، وهذا أحد أسباب الترحيب العصبي الغاضب بناتج استفتاء البريكست.
فخلاصة هذا:
أن أسباب الخروج البريطاني، وإن كانت فيها مسائل حديثة، إلا أن جذور تلك الأسباب قديمة، عند الطرفين: الاتحاد الأوروبي وبريطانيا، ولم تكن المسألة مفاجئة تماما.

عمرو عبد العزيز
23 فبراير 2019



[1] رونالد تيرسكي، وجون فان أودينارن، السياسات الخارجية الأوروبية: هل مازالت أوروبا مهمة. ترجمة: طلعت الشايب. المركز القومي للترجمة: 279.
[2]  Quentin Peel, Historic misunderstanding underlies UK-EU relationship on Churchill anniversary, Financial Times, 2016.
[3] السابق.
[4] السياسة الخارجية الأوروبية: 284.
[5] السابق: 284-285.
[6]  السابق: 286.
[7] السابق: 303.
[8] Nesta Roberts, Emphatic 'No' by de Gaulle, The Guardian (1967):
https://www.theguardian.com/world/1967/nov/28/eu.france

[9] السياسات الخارجية الأوروبية: 284.
[10] السابق: 292.

Post a Comment