تأثير نماذج الذكاء الصناعي على البحث العلمي النظري حتى الآن وصل لمرحلة معقدة ومذهلة، وغالبا من لا يتابع ما يجري بصورة دائمة، أسبوعية على الأقل، لا يدرك ما حدث خلال الأشهر الأخيرة!
أنا أتعامل مع نموذج واحد فقط طوال العام الأخير وهو gpt حتى لا أتشتت بالنماذج الكثيرة. تجربتي متعلقة بالبحث العلمي النظري فقط، وخاصة في الفكر الغربي والعلوم السياسية، فهي لا تُعمم حتى الآن.
النموذج بحثيا لم يكن مرضيا قبل عام، ومنذ ستة أشهر تحسَّن لا أكثر.
لكن قبل شهر أو أكثر قليلا فوجئت بأداة البحث المعمق التي صارت متاحة تنتج لي بحثا تلو الآخر بإجادة وإتقان غير طبيعي! كنت أنوي مثلا في كتاب أعده أن يكون النسخة المقابلة من رسالة الماجستير التي تحدثت فيها عن اليمين الأمريكي وآثاره الأيديولوجية في صنع السياسات الخارجية بفترة ترامب الأولى. فكنت أود لو صنعت كتابا أن يكون مقابله أثر اليسار الأمريكي على سياسات بايدن الخارجية. كلفت النموذج بهذه المهمة.. ثم جاءت المفاجأة: والإحباط كذلك!
البحث الذي قدمه لي كان وافيا، واستعان فيه بأرشيف البيت الأبيض وبوثائق عديدة كانت ستأخذ مني دهرا للاطلاع عليها ومصاعب للغتها الأصلية، وكل ذلك تم في خلال 7 دقائق!
ما كان سيحتاج مني لعامين على الأقل، منهم عام بالفعل قضيته في القراءة عن اليسار الأمريكي وتاريخه، لاستخلاص أبرز عقائده، ثم قراءة متوسعة في وثائق وسياسات عصر بايدن: أنهاه في أقل من عشر دقائق!
حدثت بعض الزملاء أن هذا ليس تحديا! هذا انهيار لمنظومة البحث العلمي كما نعرفه! أنماط الباحثين كثيرة بلا ريب.. ربما يكون أفضلهم هو الباحث - المفكِّر: لكن ما يحدث هو القضاء على شق البحث المعمَّق: سيبقى من كافة الأنماط تقريبا: المفكِّر! (حتى الآن؟!)
أهذا يعني ردة علمية إلى عصر ما قبل البحث المنهجي لكن بصورة أخرى: إذ الآلات ستنفذ البحوث الشاقة، ويتحوَّل الإنسان إلى فيلسوف مُعلِّق لا أكثر؟! لا أعلم! لا أدرى ما سيحدث بعد أشهر قليلة! المؤكَّد أن البحث العلمي يُعاد تشكيله الآن.. ومكانة الباحث الإنسان تتحول إلى (مدير مشروع بحثي) أكثر منه باحث بالنمط التقليدي!
هذا يطرح أسئلة أخلاقية أخرى: فقد جربت في الأيام الماضية تكليف (الباحث الصناعي!) بمهمة كنت سأتولاها في رسالة الدكتوراه، وأعتمد عليها في جزء من أحد فصولها لإثبات أطروحتي، وهو تحديد المعجم اليساري عامة والماركسي خاصة (بكل أنواع الماركسية: التقليدية، والغربية، والنقدية، إلخ) في كتابات عبد الوهاب المسيري.. رفعت له 100 صفحة فقط من حواراته مع سوزان حرفي، وطلبت منه جدولا بالمصطلحات، وأصولها الفكرية: النتيجة كانت أن نفذ ما طلبته في دقائق، وبدون حتى أداة البحث المعمق (فقط بنسخة 03). كل مصطلح، وأصوله، وأول من قال به والكتاب الذي قاله!
إن هذا يعني أن رسالة الدكتوراه ربما لا تحتاج مني أكثر من أشهر قليلة، فإن استمررت في هذا الأسلوب فسأتحول إلى مجرد (مدير مشروع)! وظيفتي المراجعة والتأكد، لا البحث الفعلي وجمع الجداول! هذا مُحبِط برغم أهميته! ويصنع أزمة أخلاقية بلا شك! أنا أعرف أني سأقرأ، ولن أعتمد عليه، لكني أعرف كذلك أن هذا يمكن أن يكون تضييعا للوقت والعمر، وفي كثير من الأحوال سيكون كذلك!
أشعر بنفس شعور أساتذتي القدامى في علوم (عصر ما قبل الجوجل) الذين كانوا يتحدثون عن طرائق جمعهم البحوث بالسفر والمراسلة والسنوات الطويلة التي كانوا يقضونها مقارنة بالأشهر التي أصبحنا نقضيها في البحث!
الآن الوضع مختلف! الآن ربما يتفوق الباحث (المدير) على الباحث المجتهد التقليدي صاحب جوجل وقراءة كتب وورق! سيتفوق بجودة الكتابة، وسعة الاطلاع (التي ستكون مزيفة غالبا!)، وسرعة الإنجاز!
كل هذا ونحن لا ندري: ما السقف؟ أين ينتهي كل هذا؟
لكن المؤكد لي: أن الكليات النظرية القائمة بصورتها الحالية، ستنتهي خلال أعوام قليلة، لتتحول إلى مؤسسات جديدة، ربما تغلب عليها النزعة الفكرية والفلسفية! وأن من سيتوقف ليرثى حاله أو يعجز عن مواكبة التطور الهائل سيضيع!
وأن المدعين سيزدادون وسيصعب جدا - إن لم يكن يستحيل - كشفهم!
إرسال تعليق