العلموية الشمولية: الدحيح نموذجا!



في أحد الأفلام الأمريكية، اجتمع شابان ملحدان بكائن فضائي وقح أكثر منهما تقدما من حيث التطور، ثم التقوا بعد ذلك بفتاة مسيحية مؤمنة بدينها، فيحدث بينهم نقاش عصبي ترفض فيه الفتاة وصف داروين بالعالم وتعتبر التطور خرافة شيطانية، فيحاول الكائن الفضائي إقناعها أن لا إله ولا ديانة وأن كل هذا خرافة، لكنها ترفض ذلك تماما، فيتدخل بميزة تطورية يمتلكها، تفوق البشر، حيث ينقل معارفه إلى عقلها مباشرة.
هنا فقط تصدق الفتاة التطور، وتصدق أن لا إله وأن الأديان كذبة كبيرة! تتساءل مباشرة بعدما آمنت بالتطور: إذن يمكنني أن أزني؟!
بوسعي أن أتحدث طويلا عن هذا المشهد موضحا كيف أن التطور مرتبط عموما بالإلحاد، وأنه أداة تستخدم لرفض الأديان وتكذيبها بإنكار الخلق ذاته، وأن الإلحاد مرتبط بالفحش والزنا، لكن ليس هذا هو ما ذكرني بالفيلم اليوم!
في مشهد الختام، يشاهد أبوها المسيحي المتعصب الكائن الفضائي، فتنتظر منه أن يلحد مثلها، لكنه يهتف ممجدا يد الله التي خلقت هذا الكائن! هنا تقول في ملل وهي تهز رأسها يائسة: لا فائدة من هؤلاء الناس!
ما سبب ضيقها؟!
يعتاد الملحدون حينما يعرضون ما يصفونه بالأيدولوجيات الشمولية المتعصبة - والأديان عندهم رأسها - أن يزعموا أن (استحالة الإبطال) أحد أهم ملامحها!
يقولون لك مثلا: حين ينتصر المسلمون سيقولون بأن الله قد نصرنا لأننا أهل الحق؛ وحين ينهزم المسلمون سيقولون بأن الله يبتلينا بسبب أننا ابتعدنا عنه أو رغبة منه بأن ننهض مرة أخرى! 
كيف يمكنك إذن إبطال تلك الأيدولوجيا؟! إنها (منتصرة) سواء فاز أتباعها أم خسروا! القدرة على تأويل الهزائم بالغضب الإلهي لا تقل كفاءة عن القدرة على رد الانتصارات إلى رضى الله!
يمكنني أن أتحدث مسهبا عن كيف أن نظرة الاستعلاء الملحدة هذه مضحكة جدا لأنهم ينطلقون باعتبارهم خارجها وكيف أن الأيدولوجيا العلموية الإلحادية نفسها تُكثِر من ممارسة هذا وبأسخف حجاج ممكن، لكن لا! ليس هذا هو غرضي أيضا!
في العام الماضي كان بعض من يردون على أحمد الغندور صاحب برنامج الدحيح يتساءلون في دهشة: أيؤمن الغندور بالتطور؟!
كان هذا السؤال يثيرني! 
أيها الناس: ذاك شاب علموي متعصب! دينه العلم والعلم دينه؛ فمتى رأيتم علمويا يتشكك في التطور أو يقبل الجدال فيه؟!
كان صمت وتجاهل هذا الشاب يفسره الجهال والسذج لصالحه: الغندور لا يؤمن بالتطور!
لم يفسروه أبدا بصورته الحقيقية: أنه لا يقبل أصلا مجرد الأخذ والرد في تلك النظرية! العلم هو التطور والتطور هو العلم! لن يناقش أي مخبول يسأله أتؤمن بالتطور أم لا! إن هذا أشبه بمن يأتي إلى فقيه مُفتٍ ويسأله أتؤمن أن هناك إله؟! / وإن كان كثير من الفقهاء والمفتين المعاصرين ممن يستحقون أن نسألهم جادين: أتؤمنون أن هناك إله؟!
لكن ظل غياب وجود تصريح لا شك فيه من الغندور ورقة يلعب بها المسحورون دفاعا عنه!
إلى أن شاهد المتابعون تعليقا لأحمد الغندور نُشِرَ على مقال لشاب يُشكِّك في معلومة أوردها في حلقته الأخيرة عن عيوب خلق العين، فرد عليه الغندور قائلا: "هذا مثير! إذن كانت التضحية بالبقع العمياء من أجل الشبكية المقلوبة (أكثر تكيفا من الناحية التطورية)؟!"
Interesting, so it was more evolutionary adaptive to sacrifice blind spots for inverted retinas?
لا يهمني من هذا الرد إثبات كونه يؤمن بالتطور، وهو ما يحسم أمره عند من لا يقنع إلا بالتصريح القح، فالحق أن هذا شأن محسوم عند ذوي العلم والأفهام منذ حلقاته الأولى، لكنني مهتم بأمر آخر: مهتم بإثبات شمولية الأيدولوجيا العلموية هذه؛ وأنها من أوضح التطبيقات التي تنزل عليها الشمولية كما يصفونها:
يقول إن العين مصممة خطأ لأن التطور صنع كذا.. 
فيهمسون في أذنه بشيء، فيغمغم: ماذا؟ مصممة بصورة سليمة؟ 
فيلتفت إلينا فورا يقول بثقة: إذن العين مصممة بصورة سليمة لأن التطور احتاج كذا!
هنا التطور هو بديل الإله الخالق! هذا هو حجر الأساس في علوم الأحياء المعاصرة، وهو من الركائز الرئيسية للأيدولوجيا العلموية ودين العلم التي لا يمكن أن يتخلى عنها شخص مثله.. وقدرتك على إبطال التطور عنده شبه مستحيلة بالأدلة العلمية فقط؛ فالمسألة لا علاقة لها البتة بالأدلة العلمية البحتة! بل لها علاقة بالفلسفة والأيدولوجيا التي يؤمن بها. فلسفة العلموية المعادية للخلق الإلهي.
إن أكثر ما كان يتحدث عنه أحمد الغندور منذ أيامه الأولى عن كون العلم لا يعرف الإيمان الأعمى وأن فيه مرونة لا تتوافر في ما عداه - والعارفون بهذا الخطاب يعرفون أن العلم يُقارن فيه بالأديان القائمة على التسليم والإيمان بثبوت القوانين الشرعية والكونية - ينهار تماما أمام هذا التعليق وتلك العقلية! إنه (مؤمن) متعصب بأيدولوجيا شمولية واضحة، وكأي مؤمن مخلص، هو لا يرى أن ثوابته خاضعة للنقاش أساسا!
هو لا يناقش مسألة التطور لأنه يعرف أن الطرف الآخر سيتحدث من منطلق ديني؛ وهو لا يعترف بهذا المنطلق كمدخل في العلوم من الأصل! إن مشكلته ليست في الأدلة العلمية كما أن مشكلة التطوريين لم ولن تكون أبدا فيها! 
لذلك أشفق على من يبذل وقته ومجهوده في تفنيد الأدلة العلمية فقط دون مناقشة المدخل النظري المعرفي والفلسفي الذي شيد عليه التطوري إيمانه وتأويله لهذه الأدلة! 
الدحيح لن يؤمن بما يناقض التطور لأن مدخله العلمي فيه إله غير إلهك الذي تعبده، حتى وإن كان مؤمنا بالله سبحانه وتعالى - فلن يسلم بأي سطر يجمع كلام الله وأدلة العلم معا إلا بصيغة الإنكار!
وفلسفته شمولية راسخة .. وهو مؤدلج مخلص .. ولن يعدم أبدا أي تأويل لإثبات التطور! 
إن التطور (منتصر) في كل الأحوال وبكافة الأدلة؛ فلا تبذل الغالي والنفيس في إقناعه!
فإن رفضت مقالته، فأنت دوغمائي متعصب شمولي يجب إسكاته كيلا يُضلّ الناس!

5 تعليقات

  1. هل استطيع نشر المقال على حسابي الخاص؟

    ردحذف
  2. الإطلالة الجديدة للمدونة أجمل من سابقتها بكثير .. تحياتي

    ردحذف
  3. فونت الخط متعب في القراءة خصوصا لو القراءة من الموبايل ،
    ارجو حضرتك تغيره

    ردحذف
  4. لا أعجب من الدحيح ولكن أعجب من المتعصبين له بجهل لا لشيء إلا لأن (دمه خفيف وعنده كاريزما) بغض النظر عن نوعية ما يقدمه هل هو علم أو تسطيح للعلم

    ردحذف
  5. قبل النقاش او المناظرة مع أمثال هؤلاء يجب تحرير مرجعية الأدلة والاتفاق عليها في النقاش

    ردحذف

إرسال تعليق

أحدث أقدم