نقد تناول د محمد عمارة لماسونية محمد عبده

من أبرز الذين تناولوا مسألة ماسونية محمد عبده، الدكتور محمد عمارة، محقق أعماله الكاملة، وقد أثر في جمهور كبير ممن قرأ لمحمد عبده من المعاصرين. وقد جمع دفاع الدكتور عمارة عن محمد عبده وانضمامه للماسونية بين الإمرار السريع للمسألة، وعدم التعمق في دلالاتها من فكر محمد عبده نفسه، والادعاء بأن الماسونية في هذا الحين كانت مبرأة تماما.
أما هذه الحقيقة، أي ماسونية محمد عبده، فلها دلالات خطيرة في فكر هذا الرجل، استقرت منذ يفاعه، إلى مغرب عمره، فهو من دعا في بيروت - بعد انضمامه للماسونية بزمن، ونفيه إلى خارج مصر - إلى جمعية تقارب الأديان الثلاثة، وتنفي ما يفرق بينها، ونعلم من مراسلات عبده والقس إيزاك تايلور أن هذا المشروع كان خطيرا بالفعل، ونعلم كذلك - من لسان عبده نفسه - أن السلطان عبد الحميد الثاني قد شرد العلماء الذين بلغه نبأ سعيهم الشنيع في تمييع الولاء والبراء. فهذا في ثمانينيات القرن التاسع عشر.
ثم إننا نرى ذات الفكر يتكرر في رثائه المخزي للأفغاني الذي كتبه سنة 1897، إذ قال فيه (والدي أعطاني حياة يشاركني فيها علي ومحروس / والسيد جمال الدين أعطاني حياة أشارك بها محمدا وإبراهيم وموسى وعيسى، والأولياء والقديسين)!

إن نفس الفكرة مستمرة منذ انضمام عبده للماسونية إلى وفاته: فكرة الانضمام لكيان إنساني أسمى يجمع أصحاب الأديان المختلفة خاصة الإبراهيمية، ولا يفرق بينها بولاء وبراء، وأن المسعى لابد أن يكون لصناعة (ديانة عليا) تجمع المتفرقين أولئك. في رسالته لتيلور يتحدث عبده أن الإسلام يمكن أن يكون هذه الديانة (العليا) لكن أي إسلام الذي يقصده عبده؟ إنه إسلام داعٍ لتلك الفكرة الجامعة، أي أننا - إن أحسنا الظن - لقلنا إن عبده كان يرى الإسلام هو الأفضل للتعبير عن الماسونية الجامعة للبشر والأديان بلا تفرقة.
لكن ما دلالة هذه الفكرة؟
دلالتها أنها فكرة مركزية تدَّعِم عليها الماسونية، وتتمحور حولها الغاية العليا، خاصة في القرن التاسع عشر: فالماسوني لابد أن يكون تابعا لدين، ولا يُقبل من لا يؤمن بإله، والماسوني لابد أن يعمل من أجل (أخوية) عليا للكيان الماسوني، أخوية فوق الأديان، وتعمل لأهداف يزعمون أنها لمصلحة (أهل الأديان)، وهي الإخاء بينها جميعا، وجعلها أشبه ما يكون بخلايا تنظيم يعمل لهدف واحد، فبدلا من أن يكون الإسلام والمسيحية واليهودية ديانات مستقلة، لها أهدافها المتضاربة، يتحولون إلى مجموعات كل منها لها طقوسها الفردية المتنوعة، لكنها من الناحية الجماعية تسعى لتنفيذ الغرض البشري الأسمى: وهو إحلال السلام والإخاء والعدل بين الناس. فالماسونية تنظيم فوق الأديان، مُنظِّم لها، متحكم فيها، ساعٍ إلى دمجها في قضية واحدة، يحظر الخلاف بين أتباعها، ويمنع المخلصين تماما لها. فالحقيقة أن الماسونية تجلٍّ قوي للعلمانية في أوضح صورها.
ومن الجلي أن هذه الأغراض الماسونية نفسها كانت أحد محاور حديث محمد عبده إلى موته، فأمر انضمامه إلى الماسونية لا يتوقف أبدا عند العمل السري، بل آثارها الفكرية في أعماله أظهر من أن ينكرها عارف بالماسونية الحقيقية (أي: الماسونية كما تروي عن نفسها، لا كما يروي عنها أصحاب نظرية المؤامرة). وكل هذا لم يتعقبه الدكتور عمارة، واكتفى بالمرور الموجز والاستخفاف بالأمر.
أما الادعاء بأن الماسونية كانت في هذا الحين رمزا للبراءة والتصدي للاستبداد، فلا يُسلَّم تماما، إذ أن الماسونية كانت سيئة السمعة في كثير من الدوائر الغربية، ليس لأنها (ضد الاستبداد) فقط، بل لإنها تورطت أثناء القرن التاسع عشر خاصة في أعمال خطيرة: مثل خطف واغتيال الأمريكي ويليام مورجان في عشرينيات هذا القرن، وفضائح نهب البنوك وتخريب الاقتصاد في إيطاليا خلال سبيعينات هذا القرن.
وقد أصدر الفاتيكان منذ القرن الثامن عشر (1738) قرارات تطرد الماسونيين من الكنيسة، ليس لعملها (ضد الاستبداد) كما يُزعم، بل لإن أفكارها - وهذا وضحه الفاتيكان تصريحا في قراراته - تتعارض مع الانتساب إلى دين أصلا، ولم تتوقف تلك القرارات إلا في أواخر القرن العشرين.
وكذلك حظر البرلمان الإنجليزي في نهاية القرن الثامن عشر (1799) الماسونية في إنجلترا، وإن كان بسبب الارتياب من عملهم السري وعلاقته بفرنسا، لكن البرلمانيين الإنجليز كانوا يعلمون أن الماسونية حركة (أكبر من الأديان والقوميات) وأنهم يعملون لأهداف مستقلة تتجاوز مصالح دين أو بلد، فهي دين وقومية بذاتها، ما يعني أنهم خطر على أي دين أو دولة يتواجدون فيها، ثم لم يعد المحفل الماسوني الإنجليزي للعمل إلا عندما أُلزِمَ كبير المحفل الماسوني في إنجلترا بتقديم كشف سنوي فيه أسماء كل من انضم إلى الماسونية (لمراقبتهم بالطبع) ولم يتوقف هذا الإلزام إلا في 1967.
وكانت في أمريكا منذ الثلث الأول من القرن التاسع عشر حركة معادية صراحة للماسونية، بل كان لهم حزب سياسي استمر زمنا قصيرا، ومنذ هذا الحين والعداء للماسونية كعدو للأديان ومهد للعلمانية جزء من خطاب رئيسي رائج في الغرب، فالقول إن الأفغاني ومحمد عبده كانا يجهلان كل هذا، في قرن يموج أصلا باتهامها أنها ضد الأديان، قول يصعب صموده. ربما كان يصح في القرن الثامن عشر أو السابع عشر، لكن في التاسع عشر أحسبه ضعيفا. ثم لو كانا انضما لها جهلا بحالها في البداية، فسيكون من الغريب أن نجد أمارات استمرارهما فيها - خاصة الأفغاني - موجودة إلى النهاية، إذ لا توجد عند عبده لحظة نعلم فيها أنه ترك الماسونية صراحةً، كما أن تلامذة الأفغاني كتبوا تصريحا بعد وفاته أنهم لا يستطيعون رواية كل حياته وفاء للعهد الماسوني بكتم الأسرار!
الخلاصة: إن علاقة عبده بالماسونية، وأثر أفكارها في فكره ومعتقده، إيجابا وسلبا، مما يجب ألا يُتجاوز بهذا الاستخفاف الذي صنعه الدكتور عمارة، وبعض هذا الاستخفاف راجع لمنهج د عمارة نفسه، فهو ابن تلك المدرسة، ابن فكرها، وأحد زعماء المروجين لها، مدرسة الهجوم على (التراث التقليدي) وتجاوز منتوجه إلى (العصرانية) لكن اختلافه مع العلمانيين يدور حول أداة نقض التراث وحجم ما يلزم نقضه، فالأداة عنده هي الاجتهاد الشرعي، وما يلزم نقضه عنده هو البناء التاريخي (التاريخاني) دون الأساس الأصولي (إجماعات السلف الباتَّة). كما أظن أن تناول الدكتور محمد حسين له أيضا شابه بعض الغلو، فجعله مؤامرة على الإسلام، والحق أن في كلامه - على غلوه - ما يحتاج النظر، وخاصة في سياق الارتباط بالماسونية كما ذكرنا: إذ أن من الثابت عن كرومر في مذكراته، وهو الصديق المقرب لعبده الذي جالسه لسنوات، قوله إنه يظن في عبده أنه لا أدري (ليس مسلما ولا صاحب دين أصلا)، وهو قول من العجيب تماثله مع قول خصم كرومر: الإنجليزي بلنت، صديق عبده المقيم في مصر والذي كان يجالسه يوميا، إذ قال في مذكراته عن عام 1900 عن عبده إنه لا يثق في الإسلام!
ولعل القول الأقرب للإنصاف: إن عبده تأثر بالأفكار الماسونية الكبرى، ودمجها في مشروعه الفكري الخاص، وأن هذه الأفكار وغيرها طبعت على كلامه بين الخاصة في نهاية حياته ما جعلهم يتشككون في أنه ما زال مؤمنا بالإسلام من الأصل، ولا نستغرب كلامهما، أي كرومر وبلنت، إذ من يقرأ كلام عبده عن شريعة التعدد، وكيف أنه مخرب للمجتمع، لابد أن يدور في عقله مثل هذا الظن، أما عمله صراحة لخدمة الماسونية مباشرة، فالتيقن منه عند الله وحده.

عمرو عبد العزيز،
الإسكندرية في 27 أكتوبر 2021

Post a Comment

أحدث أقدم