أبو هرمجدون الأثري!

كما كان العلمانويون العرب هم آلة نقل التفاسير الليبرالية اليساريَّة التقدميَّة للدين والتاريخ والدولة في الغرب، فإن الإسلاميين العرب أيضا كانوا آلة نقل التفاسير اليمينية المسيحية (خاصة الأخرويات) والتآمريَّة الغربيَّة للتاريخ والنظام العالمي وصورة الغرب.
والفارق أن الأولين كانوا ناقلين واعين، عارفين عامدين، وقد فُّضِح فعلهم في ألوف الكتب، بينما الآخرين ليسوا بواعين أنهم ناقلين من الأصل، وخدعهم التشابه السطحي للنظريات المشيحانية والألفية والأخروية للإنجيليين المسيحيين مع علامات القيامة عند المسلمين، وكذلك لم ينتبهوا لجذور نظريات المؤامرة الغربية (الماسونيَّة واليهوديَّة المتحكمة في العالم والتاريخ) التي هي مناسبة لمسيحية فيها الشيطان هو سيد العالم المنظور الذي يُضاهي الإله قوَّةً في دنيانا، والذي هو رب عالمنا الحقيقي والقادر على تسييره سيدا في السر لألوف السنين في الخطيئة والشر، بينما هو عندنا أتفه من كل تلك الصورة المسيحية البروتستانتيَّة: هو موسوس خنَّاس، لا سيِّد فوق العرشِ مُهاب، يأمر ويدير العالم بحكامه البشر فيُطاع ويُدبِّر فينجح! حتى اليهود الذين أخبرنا الله عن تآمرهم عاجلنا فورا بالتأكيد أنه يطفئ مكرهم وتآمرهم، فهم عندنا متآمرون فاشلون، وماكرون حمقى إذ يتحدون الله في التحكم بقدَرِه، بينما اليهود عندهم شركاء الشيطان، وأداته البشرية في إدارة وتسيِّير العالم، والماسونيَّة هي المنظمة التي يجتمعون بها ويربطون البشر جميعا في نيرها!
وكم من كتاب بيع على الأرصفة في بلادنا وترددت كلماته في الدروس الدينية (والعلمانية القوميَّة أيضا)، وربما يظل موجودا إلى اليوم، لكن لا يُدرك كاتبه أن كثيرا مما نقل كان عن هال ليندسي أو النازيين الجدد!
والبحث في أثر الأفكار اليمينيَّة الغربيَّة والأمريكية على الفكر في عالمنا الإسلامي يوشك أن يكون معدوما، ليس تكاسلا، إنما جهلا بالتفصيل المعقَّد لليمين الأمريكي أولا، وغموض هذا اليمين والتنوع الهائل لخريطته الثقافية والمذهبية ثانيا، وصعوبة التفرقة الفكريَّة أحيانا حتى بين بعض أطياف اليمين التي تبدو غير متطرفة: مثل المحافظين، واليمين المتطرف: مثل النازيين الجدد، وكذلك صعوبة جمع كل ماتتطلبه معرفة هذا اليمين من أدوات، مثل: جمع معرفة بالتاريخ الأمريكي كله وتطوره، ومعرفة بالدين البروتساتني وتطورات كنائسه الأمريكية، ومعرفة بالمحافظين وأصنافهم والفوارق بينهم، إلخ.
وهذا بحثٌ إن تمَّ سيكون مفيدا للمسلمين إفادة كبيرة، وسيكون بحثا سهلا في بعض الأحيان إذ كان بعض الشيوخ يجعل اسم كتابه (هرمجدون!) صراحةً! ولكن على صانعه أن يتحمَّل وضع يده في (عُشّ دبابير) اسمه فحص الخطاب الدعوي الإسلامي، بكافة أطيافه، وهو فحص (ونقد) لن يُقابل أبدا بصورة وديَّة، فكم من أسماء كبيرة دعويًّا وشرعيًّا واستغرقت في هذا الخطاب، إذ نظريات المؤامرة المتطرفة والأخرويَّات المسيحية المهووسة بتنزيل كل نص على أحداث عالمنا المعاصر، توفِّر أداة سريعة وجيِّدة في تفسير العالم بصورة سطحيَّة، وترفع عن كاهل طالب العلم أو المريد كلفة التعمُّق في فهم السياسة وواقعنا، وعبء عدم اليقين والغموض الذي يقبله محللو السياسات عامة، فبنظريَّة بسيطة تزرع اليقين وتفسِّر كل شيء في العالم، أبيضه وأسوده (بالماسونية أفسَّر لك نشوب الحرب، وبالماسونيَّة أفسّر لك انتهاءها!)، وبسهولة بالغة ودينامكية مدهشة، وبربط أحداث واقعنا بنصوص الدين، كأن الأحاديث النبويَّة والآثار مجرد كتاب تاريخ تنبؤي (فكرة التدبيريين البروتستانت الشهيرة)، بل كتاب تاريخ يروي حاضرنا تحديدا، ينجح الواعظ في توفير زاد بسيط، يُفسِّر كل شيء في عالم مضطرب، ويربط كل ما يجري بالدين، ويُعطي يقين واستعلاء من يملك الحقيقة الختاميَّة!
هذه التركيبة الرائعة ثبت دوما أنها ناجحة، ولولا أمر واحد وقعت فيه الأصوليَّة البروتستانتية التدبيرية لظلت موجتها عالية: أولا استغراقها في التحديد الذي وصل لتحديد السنة التي سيظهر فيها الدجَّال، أو هويَّة الدجال نفسه أو مكان بلده: السوفيت، اليهود، أو موعد القيامة نهاية الألفية الثانية، أو تحديد احداث معينة أنها ستنتهي بالفتن الكبرى (عصر الاضطراب) ورفع أرواح المؤمنين (مثل الحرب الباردة أو حرب الخليج الأولى)، تسبب في خفوت نجمها حينما فشلت دوما وجرى التاريخ ولم ينتهِ كما توقعوا. ويمكن ملاحظة انعكاس ذلك عند المسلمين الجهاديين خاصّةً، الذين استغرق بعضهم في مناقشة هل صدَّام مثلا هو السفياني؟ هل الخلافة التي ستقوم في الشام هي داعش؟ بل وحتى نزعة بعضهم - وقد ظهر هذا في خطاب داعش غير مرة - إلى التسريع بتمهيد الأرض للملحمة الكبرى الثابت ذكرها عندنا كمسلمين. هناك ميل معاصر لمحاكاة البروتستانت الأصوليين التدبيريين خاصةً. دع عنك اختراقنا ببعض الأفكار التي ترتبط بنظريات التآمر الكبرى، مثل الأرض المسطَّحة.
ولعل من أصلح البحوث لنفع المسلمين تشريح هذا الأثر اليميني وبيان تسلله إلينا، والتفرقة الدقيقة بينه وبين ما عندنا كمسلمين بالفعل من آثار نبويَّة، وهو تشريح لا يصلح له إلا مؤمن باحث ذو علم وعقل راجح ونفسية راسخة، وإلا كانت نتائجه وخيمة. أما كونه مؤمنا، فلإنه سيجد الكثير من التشابه السطحي بين ما ورد في النظريات الإنجيلية والمسيحية وما ورد عندنا في الآثار، وإن لم يكن مؤمنا سيضطرب. وأما كونه باحثا، فلأن هذا بحث واسع كبير، لابد أن يُفرِّغ له زمنا كي يجمع فيه أقوال الأطراف كلها، وإدراكها على وجهها، وبأدوات بحثيَّة جيدة. أما كونه طالب علم، فلكي يعرف التفرقة بين الآثار، وأيها صحيح وأيها ضعيف أو موضوع، وكيف قرأها السلف والعلماء. أما كونه صاحب عقل راجح، كي يدرك الفوارق الضئيلة ويبينها، إذ بعض النصوص المتشابهة بين الآثار الإسلامية والمسيحية تجد في التفريق الدقيق بينها أثر اختلاف أصول الدينين ورؤية العالم وصفات الله ودور الشيطان ومكانته، فتجد حينئذٍ أن الحديث الذي يشبه نصًّا عندهم، هو في ضوء اختلاف العقائد لا يشبهه مطلقا! وأخيرا النفسيَّة الراسخة، إذ ستقرأ الكثير مما عند التدبيريين واليمين البروتسانتي والتآمريين مما قد يزلزلك ويثير نفسك، فإن كنت مهزوزا فالزم غرسك أنفع لك وأحفظ لإيمانك.
فاللهم وفقنا إلى مثل هذا البحث النافع، وهذا الباحث الشهيد!


الإسكندرية، 4 يونيو 2023.


3 تعليقات

  1. مقال جميل ولعلك تكون على حد علمي أول من تطرق إلى هذه النقطة

    ردحذف
  2. الخط المونو سئ في القراءة برجاء تغييره

    ردحذف
  3. يوجد كتاب للشيخ العجيرى باسم = معالم ومنارات في تنزيل نصوص الفتن والملاحم وأشراط الساعة على الوقائع والحوادث .. متوفر على الشبكة

    ردحذف

إرسال تعليق

أحدث أقدم