قدر الله : الظاهرة الإنسانية!

لعل من أكبر المحفزات على زيادة الإيمان بقدر الله وحكمته قراءة التاريخ السياسي والاجتماعي والاقتصادي للولايات المتحدة الأمريكية!
إذ كانت أغلب القرارات السياسية التي اتخذها صناع القرار في أمريكا منذ بدايتها ذات عرض وتفصيل زاهٍ، ومبشرة بمستقبل منير، وقد جاءت بعدما دُرِسَت بحكمة ومن أكثر الوجوه، وبنظام سياسي لم ير له البشر في تاريخهم نظيرا ولا مثيلا في التعقُّد، ويضمن عرض الآراء الرئيسية بقدر مناسب من الحريَّة، قبل أن تمر الأفكار عبر عملية صنع سياسات طويلة غير متعجلة ولا نابعة من أهواء فرد أو ثلة قليلة، حتى تصل إلى سياسة عقلانية، وبأفضل ما قدر عليه الإنسان من جمع العلم والموضوعية وتقليل الذاتية. لكن بعد كل ذلك يحدث أن يغرق كل ذلك التخطيط فيما يوصف ويُدرس - ويلعن في نفس الوقت - تحت مصطلح (الظاهرة الإنسانية) أو ما شابهه معنىً، ويقصدون به في أغلب الأحيان العجز عن التوقع الدقيق للتفاعلات الإنسانية الاجتماعية والفردية للسياسات المتخذة، وهي عبارة ملتفة طويلة، مقصودها الحقيقي تجنب مصطلح: قدر الله! فكما نعلم: إياك أن تذكر الله في محراب الأكاديميا الغربية كسبب للفشل أو النجاح، إنما عليك أن تلوم من تراه بعينك مدمرا المخططات التي دُرِست بدقة: الإنسان نفسه! ندد بجوهر الإنسانية نفسها!
إن الاطلاع على أكثر السياسات العامة الأمريكية، وكيف (لبَّست) في كثير من الأحيان الشعب والسياسيين في الحائط، حتى وإن تأخَّر زمن الإخفاق؛ شيء مذهل، وشارح رائع لمفهوم قدر الله.
فعلى عكس الأنظمة الديكتاتورية المعروفة بالقرارات السريعة الهوائية، والفردية أو المحصورة في فئة قليلة لا تقبل المعارضة، يتمتع النظام الأمريكي بأفضل ما صنع الإنسان من تعقيد يظنه ضامنا أن يصل لأجود صناعة ممكنة للسياسة، ثم مع كل ذلك كانت كل كارثة تحلُّ عليهم، تمتد جذورها إلى سياسة بدت حين صنعها موفَّقة مُتقنة!
خذ عندك مثلا قرار الانقلاب على سياسات ويلسون الأممية من الجمهوريين والمحافظين، وتفعيل سياسة (دعه يعمل دعه يمر) التي أدت للنهضة الإعجازية في العشرينيات، مع تطبيق سياسة الانعزالية في نفس الوقت، وعدم الاهتمام بالأسواق الخارجية. إن قرأت حجج المحافظين والجمهوريين حينئذٍ صعب ألا تقتنع بوجاهتها وأنها (من الناحية العقلية) رائعة زمانها: لابد من تخفيض الضرائب وتيسير الاقتراض لتشجيع التوسُّع الصناعي والمالي = كان الناتج كارثة نهاية العشرينيات والكساد الكبير، وتحوُّل الثلاثينيات إلى شبه مجاعة شعبية مفاجئة! 
كان الرؤساء الجمهوريون الثلاثة بعد الديمقراطي ويلسون (هاردين - كوليدج - هوفر) يُفاخرون بأنهم قاربوا الوصول لأفضل حياة عرفها الإنسان.. قاربوا الوصول للنعيم الأرضي: السيارات في كل مكان بينما أغلب العالم المتقدِّم نفسه لا يملك منها الكثير، البنايات العملاقة تزهو في نيويورك، والصناعة في كل شبر من الدولة، والسلاح متراكم ويُطوَّر بصورة كبيرة، والبنوك والمؤسسات المالية تشهد صعودا عجيبا: كل شيء ينجح ويرتفع بسرعة البرق = هذا الصعود السريع، والذي لم تشهد أمريكا مثيلا له بعد ذلك، حتى في جيل (طفرة المواليد) والرفاه الذي جاء بعد الحرب العالمية الثانية، أدى لعقدة أمريكية ظلت زمنا من (ملامسة السحاب)! إن أسباب الانهيار الاقتصادي حينما تقرؤها تجدها هي نفسها أسباب الازدهار السريع: الوفرة والانعزالية وترك المجتمع الاقتصادي والصناعي والمالي حرا! كيف تكون أسباب النجاح المدروسة هي نفسها أسباب الإخفاق؟ لا يوجد سوى القدر مفسِّرًا! كلما جئت بأدق صورة ممكنة، دُرست عقليا من كافة الجوانب، كان سُلَّم صعودك هو نفسه مزلق سقوطك!
ثم لما جاء فرانكلين روزفلت بالصفقة الجديدة التي قلبت الخريطة السياسية والاجتماعية للولايات المتحدة، لم تكن ماضية نحو نجاح حقيقي إلا بنشوب الحرب العالمية الثانية، وتحوُّل أمريكا إلى الدائن الأول للقوى الكبرى من غير قوى المحور، وإن لم تقم تلك الحرب بهذه الصورة والترتيب (وقوع فرنسا سريعا - ترك أمريكا وعدم إعلان الحرب عليها لسنوات حاسمة - احتياج الإمبراطورية الإنجليزية لكل مصنع ولكل دولار في أمريكا)، لكانت أمريكا قد تحوَّلت لأمثولة تاريخية تشبه أسطورة إيكاروس!
ومن الأمثلة القوية كذلك قرارات ليندون جونسون وحرب فيتنام، فالغالبية من قرارات جونسون كانت مبررة وجيدة ومعقولة: هو لا يريد للشعب الأمريكي أن يشعر بالحرب، ولا يريد حربا كورية جديدة، ولا استفزازا للصين، ولا حتى استفزازا للفيتناميين الشماليين = نفس تلك الأسباب المعقولة أدت لكارثة كانت أكبر من الهزيمة العامة في فيتنام، وأدت لاضطرابات داخلية استمرت جيلا كاملا على الأقل، وأحقاد طبقيَّة وعرقية وانقلابات حزبيَّة! 
ماذا فعل ليندون جونسون خطأ؟ كان كل قرار يأخذه ويُناقَش له منطق وحظ كبير من القبول.. لا يمكنك أن تقول مطمئنا أنه أخطأ في كذا! الآن، وبعد أكثر من خمسة عقود بيننا وبينه، وبعد امتلاكنا منصة ادعاء الحكمة التي يملكها كل مؤرِّخ يحكم على الماضي: ما زال قولك إن جونسون أخطأ بجلاء في كذا صعبا إن كنت منصفا.. لكنه قدر الله، أو ما يصفونه هم بالظاهرة الإنسانية: لا يمكنك أبدا توقُّع مسارات الأحداث بدقَّة! كيف ستعلم مثلا أن قرار جعل الخدمة سنة لمنع التذمُّر واجتناب شعور الشباب والشعب بالحرب وبالتالي الغضب منها: سيؤدي إلى ارتكاب ألوف الأخطاء في الساحات بسبب نقص الخبرة، وزيادة الوفيات في الجنود لنفس السبب: لا توجد خبرة متراكمة؟
قرار تأجيل التجنيد للطلاب الجامعيين، سيؤدي لانضمام ضخم من الشباب الأمريكي للجامعات، وبالتالي تحولها لساحة أنشطة سياسية كثيفة، ثم بروز اليسار الجديد واليمين الجديد، وحرب ثقافية كبرى في الأحزاب والشوارع مصدرها ساحات الجامعات!
قرار عدم تجنيد الشباب كبير السن (نهاية العشرينيات) حتى لا يتأثر المجتمع المدني بترك الأزواج زوجاتهم وأطفالهم، والتركيز على شباب في عمر تسعة عشر عاما، سيؤدي لأخطاء المراهقة والسفاه في ساحات القتال، وقتل مزيد من الفيتناميين والجنود الأمريكيين معا!
والأمثلة لا حصر لها من فيتنام وغير فيتنام، بالأمس، واليوم، والغد وبعد الغد!
ولعل سيطرة أمريكا العالميَّة جزء كبير منها راجع لإدراكها هذه الحقيقة الكونية، وبالتالي امتلاكهم ديناميكية وسيولة للتعامل مع التغيرات غير المتوقعة والصادمة، وليس لأنهم يمكلون خطة عالمية محكمة لا تتغير!
صانع السياسة مهما خطط، لن يملك أبدا سلطة التحكُّم في القدر (إن كنت تألف العبارات الأكاديمية، فلابد أن هذه الجملة نفَّرتك، لكن جرب أن تبدِّل مصطلح الظاهرة الإنسانية بمصطلح القدر الإلهي، وأخبرني كم من كتاب أكاديمي سياسي قرأته يكرر هذا المعنى)!
أما الذكاء الصناعي - والذي سيدخل في مجال صنع القرار السياسي لا محالة - فلا أرى سوى أنه سيزيد الأمر غباء وحمقا، وسيزيد الإنسان المهتدي إيمانا بتدبير الله وقدره وحكمته ورحمته. فإن كان ما سبق علَّم البشر معنى (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين)، فإن ما هو قادم سيُعلِّم البشر معنى (فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين).

الإسكندرية في 2 يونيو 2023،




2 تعليقات

  1. تصويب =" و يمكرون و يمكر الله "

    ردحذف
  2. جميل المقال يكشف أيضاً أن" الإسلام تطعيم عقدي إجباري"

    ردحذف

إرسال تعليق

أحدث أقدم