التحالف المشؤوم: اليسار والمسلمون الغربيون، والبديل المحافظ!

نعيش هذه الأيام النحسات دورة جديدة من احتفالات وكرنفالات شهر الفخر، أو (شهر تحدِّي الله)، وتتوارد علينا من جديد صور ناشطين اجتماعيين أو سياسيين يوصفون بالمسلمين وهم يشاركون المظاهرات، مثل أوبي خان هذا العام، أو غيره في كل عام، حيث ينزل من يوصف بالمشيخة في بعض المساجد الغربيَّة، ملتزما باللحية كسنة ظاهرة، ليسير بين أحفاد قوم لوط احتفالهم بالعلوِّ في الأرض! 


إنني أتساءل أحيانا، هل كان المسلمون هم من سعوا إلى الانضمام لتحالف الليبراليين اليساريين في أمريكا مثلا، أم أن العكس هو ما حدث، أن يكون اليسار الليبرالي هو من غازلهم وضمهم ردا على الإسلاموفوبيا التي وسمت عصر بوش، في إطار أجندة الليبراليين الواسعة الموصوفة بنصرة الأقليَّات الاجتماعيَّة ومنع التمييز؟ من الذي بدأ؟

وبغض النظر عمَّن قارب الآخر، إلا إن رؤوس المسلمين في أمريكا مثلا التقطوا هذا الطُعم الخبيث، إذ في وسط استقطاب سياسي واجتماعي مزلزل كالذي يمر به العالم الغربي، توشك خيارات تواجدهم السياسي - وبالتالي التقليل من عبء المراقبة والكراهية - بين اليمين واليسار، والأول رفع منذ البداية شعار العداء للإسلام والحرب على المهاجرين جميعا، مستعملا إياهم ككبش فداء لتفريغ الغضب من الانحلال الاجتماعي وتمكُّن الليبراليين وموجة التضخُّم والانهيارات الرأسمالية الدورية، فلم يجد المسلمون المهاجرون سوى الثاني الذي مدَّ له بعض المتصدّرين أيديهم وانغمسوا في تلك الأجندة.

إن التحالف بين المسلمين في أرض الحرب الغربيَّة واليسار، هو تحالف مشؤوم، إذ لم يقتصر فقط على تضييق واسع يشعر به المسلمون في التصريح بحقيقة معتقدهم في هذا الأمر، حتى وصل الأمر مؤخرا إلى ما يشبه الامتحان لبعض المسلمين، إذ لا يوجد معنى لمطالبتكم بالحرية التعددية الليبرالية إن كنتم أول كافر بها في قضية صارت على رأس اهتمامات الغرب الثقافية والدينية العلمانية، فضلا عن انتشار الردة، إذ الإيمان بحقوق اللوطيَّة أو التخنُّث أو الترجُّل كفر بالإسلام لا يرتاب فيه مسلم.

والمسلمون وإن كان من الضروري على بعض رؤوس الشريعة وأشياخهم البقاء في تلك الديار، خاصة المعروفة بكثافة تواجد المسلمين فيها، إذ من الخطر البالغ تركهم دون إرشاد، إلا أن غالبهم، غير العابر بلا استقرار كالمُتعلِّم، أو المُضيَّق عليه مأزوما محتاجا كاللاجئ، يلزمهم معرفة أي إثم يرتكبه الواحد منهم ببقائه في تلك الديار، التي كان يؤمر شرعا بالهجرة منها حينما كانت راية الصليب وأهل الكتاب فيها عالية، والفضائل الأخلاقية العامة راسخة، والتعليم ليس فرضا واجبا، والدولة لا تتدخل في شأنك العائلي أبدا؛ فما بالك وقد ارتفعت فيها راية الملاحدة أعداء الله ودينه، وصار التخبيب والفحش والزنا واللواط هو الأصل والعرف، وصار التعليم طعاما واجبا على أطفالك، يُدسُّ به في أكثر الدول الغربيَّة سُما زعافا يقتل دينهم وكل دين، وتحوَّلت الدولة إلى رقيب غادر على أطفالك، تحسد الأسر المستقرة، ولو من أبناء وطنهم، في عالم الليبراليين الملئ بالتفكك الأسرى والطلاق والانحلال، فتتدخل بالتقويم وأحيانا بالخطف كما في بعض الدول الإسكندنافية؟

غير أني بعد كل ذلك أقول للرؤوس، ممن أرى كما قلت أن بعضهم يجب عليه البقاء: إن المسلمين لو كان لهم أن يختاروا حليفا غربيًّا، لكان المحافظون أولى الناس بالسعي إليهم!

ولا أتحدث هنا - في أمريكا خاصةً - عن متطرفي اليمين، الذين هم في هامش الحياة السياسية مهما اتسع ذلك الهامش، ولا عن المحافظين الجدد والصهاينة المسيحيين، بل أتحدث عن اليمين الكاثوليكي مثلا، أو اليمين البروتستانتي غير الصهيوني، أو كافة من يمثلون بشكل عام تحالف المحافظين الأمريكيين غير الصهاينة، وهو تحالف ذو نفوذ سياسي واجتماعي وإن قلَّ، لكنه لم يصل لدرجة اليمين المتطرف في محدودية التأثير، وإن لم يصل أيضا لدرجة المحافظين الجدد أو اللوبي اليهودي عامة في اتساع التأثير! لقد كان هذا يستحق المحاولة الجادة إن كان ثمَّ سعي للمشاركة في الفضاء السياسي والاجتماعي، وتاريخ اليمين الأمريكي أكثر ديناميكية بكثير من اليمين الأوروبي، وفيه تحالفات غريبة ومدهشة، إذ يتعامل في كثير من الحالات ببراجماتية صادمة: فقد يتفق معك في إطار دعم حزمة من القضايا، ويتحالف إلى درجة تغيير نبرة خطابه من النقيض إلى النقيض، والأمثلة من التاريخ الأمريكي كثيرة، مثل الأب كوفلين وتحولاته، وتحالف الصفقة الجديدة وتغيراته المدهشة، وكيف تحوَّل الحزب الديمقراطي من قلعة العنصريَّة البيضاء الجنوبيَّة وعدو السود والحقوق المدنية إلى النقيض تماما، وكيف تحوَّل الديمقراطيون أنفسهم من حزب ويلسون (الذي اعترف بوعد بالفور) وترومان (الذي سارع معترفا بإسرائيل بعد إنشائها بدقائق) بعد حرب 67 وتوافد اليسار إلى حزب الأقليات والحقوق المدنيَّة والشمال الصناعي الليبرالي والتلكؤ في دعم سياسات إسرائيل! 

إن الساحة السياسية الأمريكية ديناميكية أكثر مما يتصوَّر بعض رؤوس المسلمين هناك ممن اعتادوا في أوطانهم الأصلية التصلُّب، والفرصة ما زالت متاحة على الأقل لتقديم فصيل مسلم آخر يسعى للتحالف مع بعض رؤوس المحافظين هناك وتقديم مقالات رأي وظهورات إعلامية، تبيِّن صراحة رفض الشريعة للوطيَّة وللعديد من أفكار الأجندة اليسارية الليبرالية، ويكون من مهام هذا الفصيل توفير الحماية من مخاطر ظهور المسلمين ككتلة واحدة وصوت راسخ في التحالف الليبرالي الداعم للنسوية واللوطية. قد ينجح بعض المحافظين في توفير مساحة آمنة لمناقشة اتفاقات المسلمين معهم في تلك القضايا، إذ تعد مكافحة النسوية واللوطية من أكثر المواضيع شيوعا بينهم خاصة في الزمن الحاضر.

وأنا أعرف بعض مصاعب ذلك الأمر، إذ المساحة بين اليمين العنصري والمحافظين شفافة في كثير من الحالات، والتقيَّة وإخفاء حقيقة المعتقد صارت منذ الستينيات إحدى عقائد المحافظين، وما يكتمونه أكثر مما يظهرونه، فقد يظهر فصيل لك محافظا غير عنصري الخطاب، لكنه في حقيقته السريَّة عرقي أبيض متعصب، وبعض الولايات المحافظة فيها صهيومسيحية حصريَّة، كما أن المراقبة السياسية والأمنية الأمريكية للتواجد الإسلامي والتدخل في بعض التحالفات أمرا شائعا وليس معدوما كما قد يعتقد بعض المتوهمين بالنظام الأمريكي السياسي. إضافة بالطبع لعدم وجود لوبي إسلامي حقيقي، لأسباب كثيرة بعضها من الدولة الأمريكية نفسها وإدارتها المرتابة لملف المسلمين فيها، وبعضها من طبيعة التكوين الطائفي والعرقي والقومي للمسلمين، لكن كما نبه ميرشايمر في كتابه عن اللوبي الإسرائيلي: الطبيعة المفتوحة للنظام السياسي الأمريكي يمكن أن تجعل حتى لأصغر المجموعات نفوذا كبيرا إن التزمت بقضية محددة وكان بقية السكان غير مبالين، وبالطبع أقترح هنا أن تكون القضايا هي العائلة ومخرباتها: النسوية واللوطية وكثير من قضايا المحافظين كالإجهاض.

أما حجج المدافعين عن التحالف مع الديمقراطيين والليبراليين، والتي بعضها يمسُّ واقعنا الإسلامي في بلادنا مباشرة، مثل الضغط في ملف الحريات السياسية، والدق أكثر على الإسفين بين الديمقراطيين والليبراليين وإسرائيل، وهي كلها اعتبارات حقيقة، لكن الواقع المأزوم في الاختيار بين يمين الشانئين والحاقدين، ويسار الفحش والفاسقين، هو مشكلة لا حل لها، خاصة حينما يتضمَّن دعم اليسار ردة لا ريب فيها، وانضواء تام تحت أكبر راية للحرب على الله ورسله وأوليائه. فاللهم فرجا من عندك.

5 يونيو 2023




3 تعليقات

  1. بارك الله فيكم … لعلهم يسمعون أو يعقلون

    ردحذف
  2. كتب الشيخ ياسر قاضي (داعية في الأمريكتين):
    To be sure, the sudden friendliness of" politically-conservative groups and
    media outlets towards Muslims is indeed tempting some in the community to
    rush to forge new alliances with the political right after previously
    flirting with the left. They are making a mistake. Again.

    Muslims across North America should firmly root their moral values in their
    faith, not in a specific political ideology. To understand why this
    distinction is so critical, we ought to heed a lesson from our recent past.

    In the immediate aftermath of 9/11, Islam in North America faced an
    existential crisis. Muslims were widely portrayed as the enemy. Scholars were
    deported. Bearded Muslim men and hijabi women were harassed, randomly
    questioned and detained at airports. Many worshippers avoided praying in
    masjids and some Muslims even changed their first names. The reality of
    Muslims in North America in the first decade of this century was one of fear,
    anxiety and extreme alienation.

    The open hostility of the North American political right towards Islam and
    Muslims sharply contrasted with the comparatively sympathetic left. As a
    matter of pragmatic political (and in some cases, literal) survival, Muslims
    flocked to the liberal political parties of Canada and the United States.
    These left-wing institutions gave Muslims the best chance to survive against
    anti-Muslim forces largely represented by the conservative right. But
    embracing the left meant accepting an entire package of causes, some of which
    aligned ideologically with Islamic ethics (such as combatting racism), while
    others did not (such as the legalisation of certain drugs).

    Many Muslims began approaching politics not as a tool but as an ideology.
    They felt motivated to resolve the cognitive dissonance between their
    political commitments and their religious beliefs, even if it meant radically
    reinterpreting the faith to allow for such accommodation."

    رابط المقال:
    https://www.aljazeera.com/opinions/
    2023/6/19/muslims-opposed-to-lgbtq-curricula-for-their-kids-arent-bigots

    ردحذف
  3. أخبرني أخ يعيش في كندا أن هذا الموضوع أكبر من قدرة اﻷحزاب، الحزب المحافظ بكندا وعد بالغاء المواد الدراسية المتعلقة بالفكر اللوطي والتي قد أدخلها الحزب الليبرالي، فانتخببه الناس على هذا اﻷساس، ثم لم يستطع هذا الحزب المحافظ الوفاء بما وعد بسببب ضغوطات مورست من قبل لوبي اللوطيين.
    في المقابل في أحد مدن كندا، انقطع ما يقرب ثلث الطلاب المدارس (عددهم 30 ألف طالب) عن الدراسة في أيام يونيو إياها، مما دفع مجلس المدارس ففي هذا المكان لالغاء تلك الأنشطة .

    ردحذف

إرسال تعليق

أحدث أقدم