عصر الاكتشافات الخيالية!

ظاهريا، يبدو إعلان فتح عالم (الكون الآخر) حاملا لخير كبير، عند كثير من عشاق التطور العلمي، فسيحفز على إشاعة التواجد البشري الدائم في العوالم الافتراضية، والتي تبدو المسار الأعظم لتقدم البشرية في المجالات العملية خاصة (التجريبية مثل العلوم البيولوجية والفيزيائية والطب والهندسة) تقدما هائلا، يعرف من تعاملوا خلال السنوات الماضية حجمه، وكيف أن (التعليم) سيقفز قفزات مخيفة لم تصل إليها البشرية من قبل، حيث سيتمكن الطالب بداية من يفاع الطفولة، إلى هِرمِ الدكتوراة، في المشاهدة الحية النشطة، والتفاعل شبه المباشر مع أجساد المخلوقات، وزيارة أركان الكون، دون خشية من التجربة والخطأ، ولا اجتهاد في التصوُّر، وكد في التخيل: فسيتمكن طالب الطب من التدرب على مئات الجراحات المصممة بخبرة، وتشريح ألوف الأجساد الهولوجرامية الدقيقة، دون قلق من وفاة حالة، أو رهبة من إبطال رخصة! وكذلك سيتمكن طالب الهندسة من تفكيك الآلات المعقدة، وإعادة تركيب أجزائها المتناثرة، ثم تكرار ذلك قدر ما يشاء، دون خشية أن يرسب عقاب الخطأ، ودون هاجس أن يُفدَحَ ثمن الإفساد!
وكل ما أخبرك به متاح، لكن في نطاق ضيق، ووجود نادر، ففي الغرب أساتذة استعملوا بعض هذا كنمط للتعليم، خلال العامين الماضيين خاصة، أي زمان وباء كورونا، بسبب التضخم المفاجئ للاعتماد على التواصل الإلكتروني بديلا للمحاضرات المباشرة. وقد رأيت كغيري أن المستقبل القريب سيصبح ابن هذه الصورة التعليمية المذهلة، وأنها ستشهد تطورات عجيبة تفوق الخيال! تصور أن تجالس السلطان صلاح الدين الأيوبي، أو تجادل تشرشل، أو تنصت إلى تحتمس الثالث، وأن تشارك بنفسك في عمليات الحروب العالمية، وتفقه مسار سياساتها! رواد الألعاب الإلكترونية يعلمون منذ زمن طويل أن هذه الفكرة مستعملة إلى درجة الابتذال في عالم ال (2D)، وكانت تنتظر اليوم الذي يتكاثف فيه تواجد البشر في العالم الافتراضي، لا غير.
أما أظهر الجوانب المظلمة، فيتمثل في الانتكاسة التي ستصيب التعليم التقليدي السردي، مقابل ازدهار التعليم المتطور الافتراضي، فلن يصبح استيعاب الطالب مرتهنا بإمكانات المحاضر في الإلقاء، بل سيصبح أكثر تفاعلا مع فحوى المحاضرة مباشرة: لن أحكي عن قسوة أجواء كوكب بلوتو، بل سنجول في أركانه! لن أروي عن جمال مدينة ألمانية، بل سنطوف أرجاءها! أما المُحاضِر نفسه فقصته أخطر: إذ مع بروز الذكاء الصناعي، ومع تطوُّر الردود التلقائية، قد تتناقص الاستعانة بمحاضر بشري، ويتزايد طلب المحاضرين الافتراضيين، الأكثر صبرا، والأوسع علما، والأقدر على التفاعل مع باقي أرجاء هذا العالم الجديد!
أما الجانب الأدعى للاضطراب: فهو الفوارق الضخمة التي سترتفع بين المتعلمين بهذه الصورة، وبيننا نحن أجيال التعليم (القديم) ومن يماثلنا! إنها فوارق خبرة ناتجة من يسر تكرارهم العمل دون مسؤولية، وقدرة على تفاعل لم نحظَ به مع أدق المعلومات، وهو ما سيدفع الألباء، رغما عن أنوفهم، إلى ولوج جهنَّم الوهم هذه!
وأحسب أن مزايا التعلُّم، ستكون أداة التطبيع العالمي الحكومي مع هذا النظام، والذي ستعتاده الأجيال الجديدة (الحديثة)، فيصبح فرضا عليها لا محالة! إن الإنسان يمكن أن يفر من عالم الألعاب الطوعي، أو يهجر عالم التواصل الجماعي، لكن سيذعن قسرا لمفتاح العلم والعمل: النظام التعليمي.
أما باقي جوانب عولمة هذا النظام، فجلها مزكوم بالدواهي، ومفضوح بالرزايا، خاصة للفقراء!
تصور فقيرا معدما، يعرف أن بعشرة دولارات شهريا لا غير، يمكن أن يشتري فيلا في المالديف، يقيم فيها كما يشاء! ناهيك عن العوالم الخيالية الآسرة، واحتمالاتها القصصية الخلابة!
سيتوافد الملايين كي يعيشوا في انفصال كامل عن عالمهم الحقيقي!
تظن هذا مبالغة، واستعارة لصورة الديستوبيا الرائجة في السينما الأمريكية؟ أين كنت طوال العقدين الماضيين؟!
أسمعت عن ألعاب ستاردول وصبايا؟ حيث تنشئ الفتيات شققا - متفاوتة الأحجام - من صور! ويشترين أحذية وأزياء - متفاوتة الأسعار والماركات - من صور؟
أتعلم أن ملايين الفتيات يصرفن أموالهن في هذا؛ بل لهن (عصابات) تتناقل إشاعات موعد فتح (العروض والتخفيضات / الأوكازيونات) حتى يتجمهرن لشراء الفساتين (صور فساتين لا أكثر) من مولات إلكترونية (صور مولات)!! أتعرف أن بعض الفتيات الفقيرات يصرفن مدخراتهن على تلك اللعبة؟!
أسمعت عن المواقع التي تشتري فيها حيوانا أليفا (إلكترونيا) ليس إلا صورة على موقع ما، وتدفع أموالا لتربيته، وإحسان تغذيته، ثم تشركه في مسابقات للتفاخر به! أنت تظن هذا هراء؟ إذن أنت لست معنا في هذا العالم!
أما الإباحية فقصتها مروعة، وعالمها مُفزِع!
لقد هُيِّئ الكوكب خلال العقدين الأخيرين لما هو قادم! إن العالم متجه نحو زمن آخر، وعصر لا نظير له، وقد انتهى التدرب على قبوله، واكتمل التطبيع مع قواعده! فقط كان الفتح ينتظر شيطانا يستثمر في مشروع ضخم، يُنظِّم القطع المتناثرة في عالم واحد!
وها هو الصهيوني زوكربيرج قد أعلن نفسه الفاتح الأكبر!
ولعل بعض ما تصنعه الحكومة الأمريكية معه من مضايقات، صادر عن الذعر من مستقبل قريب، لا مانع له، سيكون رئيسه هذا الفتى ومن وراءه!
ليس السياسيون الغربيون ملائكة، إذ لا يدافعون عن الإنسانية بمغالبته، إنما الراجح أنهم ينازعونه حق إدارة هذا العالم البكر بدلا منه!
إننا في بداية عصر جديد، يماثل عصر (الاكتشافات الجغرافية) الذي سوَّد الغربيين، غير أنه عصر اكتشافات عوالم الخيال، وتنازع هيمنة النفوذ فيها، وأثر هذا العصر لن يقل عن الأول في تغييره للواقع المُعاش، وبروز قوى وغياب أخرى.
أنا لا أعرف حاليا كيف سنتعامل مع هذا الكون المستحدث، لكن العصر الذي نحن في نهاية مقدماته سيُفسدنا إن انغمسنا فيه، ويعزلنا إن انقطعنا عنه، فلابد من مقاربة تنظم التواجد، وتستثمر الفوائد، فتحظر الاستغراق في الخيال، وتستبقي منار الهداية، فلا نضل، ولا نهجر الناس للغاوين.


عمرو عبد العزيز،
الإسكندرية 29 أكتوبر 2021.


Post a Comment

أحدث أقدم