إسلاموطوبيا 2020: الأشعرية الجديدة

تمهيد.

يلزم، قبل الولوج إلى هذا الفصل، التعرُّف سريعا على معنى الأشعرية الجديدة، وسمات الأدلجة الخاصة بها، والتعرف على مصطلح عقيدة الأزمة، ثم التعرف أخيرًا على سبب اختيار الحالة التي سنمثِّل بها طوال الفصل.

أما الأشعرية الجديدة Neo-Ash’arism، فهو مصطلح يدل على التوجه السائد في الأشعرية المعاصرة، والذي يُعتبر د. سعيد فودة أحد رواده، وقد بينت هذا المصطلح، في كتابي (الأشعرية الجديدة)، ومثلت به، فليُرجع إليه. لكنها عامةً صورة حديثة من الأشعرية، مُختلفة عن السابقة في أولويات الخصومة، وشيوع روح التعصب والطغيان وهدم أنسنة السلفيين Dehumanization، أما صفاتها الأبرز، فهي: النزول في التعامل مع ابن تيمية وتراثه، وشتم وتحقير أتباع ابن تيمية مطلقًا، وتمجيد الأشاعرة ومذهبهم بإطلاق زمني ومكاني، واعتبارهم الحق المطلق، أعيانا ومنهجا.

أما مصطلح عقيدة الأزمة، فقد نشرته في مقال بعام 2018، ولعله يكون نواة مشروع آخر، ويشير إلى عقيدة غير أصيلة في الإسلام، إما ذاتية التكوين، أو وافدة على الأمة، ظهرت كاستجابة لأزمة قاهرة، مجتمعية أو تاريخية، رغبةً في عبورها فكريا أو نفسيا، وقد مثلت في المقال بالصوفية والأشعرية. فالأشعرية بصورتها الأولى عقيدة أزمة، ذاعت بين المسلمين للإيمان حينئذٍ بمرادفة المنهج اليوناني، المنطقي والفلسفي، للعقلانية، وألا يصح أن يظل الإسلام مؤيدًا بالنقل، دون بناء عقلاني، يُلزم من لا يؤمن بالنص كله، وهي الأزمة التي حاول علاجها الفلاسفة والمعتزلة ثم الأشاعرة الأوَل. والأشعرية بصورتها الثانية، هي عقيدة أزمة كذلك، وهي ذيوع المنهج التيمي السلفي، وتأييده من قبل دولة ثرية، وهي مملكة آل سعود، وهو منهج يهاجم الأشعرية، ويشكك في كون ما حدث منذ البداية كان أزمة أصلا، إذ لا يُسلِّم بأن علوم اليونان مرادفة للعقل، أو آلة لعصمته، ونصرة العقيدة، وبالتالي الصحيح هو العودة لحالة ما قبل تعرُّف المسلمين على تلك العلوم، والاكتفاء بمناهج الشريعة السلفية[1].

وقد ناقشت أكثر صور ومدارس الأشعرية الجديدة ذيوعًا، في الكتاب، وهي الفوديَّة، لكنني هنا أناقش حالة مصرية خاصة، وهي مدرسة شيخ العمود، التي نشأت بعد الثورة، كنموذج على الإسلاموطوبيا الأشعرية الجديدة، التي وجدت، بشيخ العمود تحديدًا، منفذًا لها إلى وسط شباب إسلامي حركي، وتنامى أثرها طوال الأعوام الماضية.

والمدرسة، وإن كانت حديثة، جاءت بعد ثورة يناير 2011، وعمرها، بحسب الموقع الرسمي، لا يزيد عن سنوات ستة، إذ أنها انتعشت أو لمع نجمها بعد انقلاب 2013، إلا أنها ذات نشاط مدهش، وانتشار واسع، فبحسب الموقع الرسمي، قد مر على المدرسة ستون ألف طالب، ومئات المتطوعين والمحاضرين، ولها أفرع كبرى ثلاثة في مصر.

وسنرى في هذا الفصل، بنية تلك الأيدولوجيا، أو صورة مقاربة لها على الأقل، حينما تتجلى في عمل مؤسسي، وكيف يُمكن أن تؤثر في تكوين طوبوي جديد بالداخل الإسلامي، يمكن أن يُفكك الخطاب المعرفي من داخله، ويخلق مزيدا من الشقاق والنزاع في أهل السنة.

عالَمٌ جديد، ونُهزةٌ لا تُتركُ!

انقسم الخطاب الشرعي في مصر، بالعقد الأول من الألفية الجديدة، بين جامعين كبيرين: الأول هو الأزهر، الجامع التقليدي للمؤسسية الدينية المتحالفة مع السلطة، والقائم على العقيدة الأشعرية. والثاني هو الجامع السلفي، وهو مؤسسة متناثرة، فوضوية الطابع، وقائمة على عقيدة أهل السُّنَّة، مع اختلاف ضخم بين مكوناتها في تصوُّر السُّلطة، ومدى شرعيتها، والموقف الصحيح منها.

وقد يكون أحد أبرز عوامل فتح المجال للجامع السلفي، الذي كان قليل الوجود في بلدٍ أُسِّسَ منذ عهد صلاح الدين الأيوبي على العقيدة الأشعرية كحق مطلق، هو التحالف السعودي المصري في عهد مبارك، ورعاية السعوديين للسلفية، باعتبارها أعظم أدوات القوة الناعمة، التي توثِّق رباطا غليظا بين المؤسسة الدينية بمملكة آل سعود، والدول الأخرى، إضافةً لعوامل ذاتية، إذ كان من الواضح أن الرئيس المصري مبارك كان يفتح المجال للانتشار السلفي محاولا سحب البساط من تحت أقدام طرفي المعارضة الإسلامية: الإخوان المسلمين (المعارضة الديمقراطية الإصلاحية)، والجهاديين (المعارضة المسلحة الاستئصالية)، فأي هدف أحسن من ضمِّ الشباب الرافض لخنوع المؤسسة التقليدية وتحالفها المُخزي مع الطغاة، أي صاحب الميول المُعارِضة، إلى تشكيل جديد، ينتمي عامةً إلى شكل سلمي للمعارضة في أكثر صوره ضيقا من السلطة؟

فالأزمة أن الوافد هو الدعم للسلفية، لا السلفية ذاتها، التي تمتد جذورها في العصر الحديث إلى الشيخ رشيد رضا، وجمع من العلماء، وقد صادف هذا الدعم مجموعة من العلماء والدعاة ذوي الشعبية، والخطاب القريب، الذي حيزت له القلوب بالقنوات الإعلامية والرواج بين المتدينين، وبساطته ويسره، وامتلاك كثير من أفراده الكاريزما الكافية للانتشار.

لكن مع نهاية هذا العقد جاءت الثورة، التي زلزلت التيار السلفي، فحطمت الكراسي، وأدالت السلاطين، بينما لم تؤثر في المؤسسة الأزهرية، لثبات الصورة الممتدة منذ قرون، كحليف مُحافِظ أو داعم صريح للسلطة، لا يُبدي ضيقًا إلا إذا مُسَّت صلاحياته وموارده. وشرح ذلك الزلزال يطول، لكن من أبرز تبعاته كان التحالف بين جمهرة السلفيين مع الإخوان، ودخولهم معركة نزع السلطة من أيدي المتكبرين، وكان لهذا الموقف عواقبه، إذ ظهرت مخاطر ترك النظام المصري هذا التيار ينمو إعلاميا بكثافة خلال عقد كامل، وخاصة في حالة دعم الشيخ حازم أبي إسماعيل، والنجاح الواضح للرموز السلفية في معارك الحشد الانتخابي لصالح مرشحي الإسلاميين، ووضِعت السلفية في قائمة المُنتظر تأديبهم متى وئدت الثورة، وقد كان.

في نفس ذلك الوقت، ظهر تيار ثوري أشعري، كان رمزه الشيخ عماد رفعت رحمه الله، وهو شيخ مدرسي أزهري، قُتل في إحدى المظاهرات بثورة 2011، ورُمِّز من العلمانيين وتلامذته معًا، كنموذج للشيخ الذي ينتمي لمؤسسة (وطنية) الطبع، معادية للحركات الإسلامية والسلفية، وهي الأزهر، ومع ذلك لديه ميول للخطاب المتصالح مع العلمانيين -كما صوروه- والمشاركة الفعَّالة في الثورة، والتلاقي مع مكوناتها.

وقد برز من بين تلامذته أو المتأثرين به شاب متفقه أشعري، هو الشيخ أنس السلطان، الذي يدرس الشريعة الإسلامية، وكان رأس المجتهدين في إنشاء مشروع (شيخ العمود)، الذي جُعِل رمزه صورة الشيخ عماد.

وفي خلال سنوات، توسع المشروع، خاصةً بعد الانقلاب وتقزيم السلفية مرة أخرى، وقد سار هذا المشروع متوازيًا مع مشروع آخر، هو الرواق الأزهري الجديد، الذي أعلن الأزهر عن افتتاحه، وهو مشروع يسعى لتجييش راغبي التعلم الشرعي، دون الشرائط المجحفة والحواجز المُشيَّدة حول الأكاديميا الأزهرية، والتي قد تكون أحد عوامل بحث الشباب عن الأشياخ السلفيين في مطلع هذا القرن، إذ بينما لا يسمح لك الأزهر حاليا بالتعلم الشرعي فيه إلا وأنت ابنه منذ الابتدائية، أو بحفظ نصف القرآن على الأقل قبل التقديم في كلياته الشرعية، وما إلى ذلك من شرائط لا تُطلب حتى في المجتهد =كان الوسط العلمي السلفي مفتوحًا ورحبًا، وبينما اكتظت الأكاديميا الأزهرية بطلبة علم دخلوا الكليات الشرعية بسبب فشلهم الدراسي، إذ أن كليات الشريعة من أدنى الطالبين لدرجات الثانوية الأزهرية، ما أذاع عنهم ضعف التحصيل والتكوين، ازدحمت المساجد السلفية بطلبة علم من الناجحين دراسيا، ولديهم مُكنة المذاكرة والاجتهاد والتحصيل، لكنهم لم يلجوا، كأكثرية الشعب المصري، الدراسة الأزهرية، فحُرِموا منه. ولعل تفطن صناع القرار في الأزهر لذلك هو ما جعلهم يتحمسون لفكرة الرواق، إضافة بالتأكيد للأصل، وهو الطمع في محاكاة مشروع العمود، لكن بعد (ضبطه) ليصير أزهريا وفيا منتميا بلا أدنى ريب، ليس مشكوكا في انتمائه للدولة والنظام.

إذن كان في الساحة بعد الانقلاب مشروعان، لا يُمكن دركُ أولهما دون الثاني، ولا يمكن فهمهما معا إلا بمعرفة تاريخ الدرس الشرعي في مصر، وهما الرواق الأزهري، الذي مثَّل محاولة الأزهر الرسمية سيادة الساحة العلمية المملؤة بخرائب معارك الثورة، والمكتظة بجثث السلفيات المختلفة، فكان الرواق هو النموذج (الرسمي) للمحاولة الأشعرية التابعة للسلطة، بينما كان شيخ العمود هو الأصل، والنموذج (غير الرسمي) المستقل عن النظام.

ومع الوقت تبلورت صورة المدرسة، كتيار وسيط، بين الأشعرية العلمية الرسمية (التابعة)، والحركات الإسلامية المعارضة، وهما نقيضان في المُركَّب البنيوي لمصر، ولا يعني تناقضهما غياب التفاعل والتبادل النشط بينهما. فكان العمود نموذجا لأشعرية جديدة الصورة، تُحقق الصورة المفقودة في تاريخ الأشعرية المصرية، نموذج الأشعرية المُعارِضة السلمية!

وما أشبهه بنموذج مدرسة الدعوة السلفية الإسكندرية قبل الثورة! إذ كانت نشِطة علميا، ولها مساجد ورواد بالآلاف، ومع ذلك مُضيَّق على رموزها! تضييق لا وأد ولا قمع، ذاك أنها كانت ذات طابع معارض الظاهر للسلطة، كما تبدى في نماذج مثل الشيخ الجليل د. سعيد عبد العظيم، أحد رموزها قبل الثورة، لكنها حافظت على سلمية المعارضة، ورفع أولوية الانشغال بالعلم.

إذن يمكننا تلخيص إفادة مدرسة شيخ العمود من اللحظة التاريخية الراهنة، في النقاط التالية:

1- أفادت من تشظي الساحة العلمية الشرعية، بعد السقوط المدوي للسلفيات في سنوات الثورة، وانقلاب النظام المصري عليها.

2- أفادت من التحالف المصري الدائم بين السلطة، والأشعرية العلمية - الأزهرية، وخلو السجل التاريخي الأشعري الرسمي من معارضة مُجاوِزة للمقبول، وهو تحالف يعطيهم رصيدًا كافيًا للحركة تحت بصر الدولة، رغم الطابع المُعارِض أو المتحفظ من السلطة.

3- أفادت من التوافق مع التوجه الرسمي لصانع القرار الأزهري، وسعيه في الاستيلاء على الساحة المدرسية العلمية، إضافةً للتماثل الأيديولوجي بين الطرفين، أي انتمائهما معًا للأشعرية الجديدة، وهو عامل يوفر صوتا منافحًا عن المشروع أمام الدولة، التي تتواصل مباشرة مع صناع القرار الأزهري، وإن لم يكن هذا يعني أن اتفاق التوجهات، يلزم منه اتفاق النفوس، فقد ظل الحسد من الرسميين على العمود جليا في الأفعال، مثل التضييق على من يدرس فيها، ووصمها بالتمرد، وهي تهمة مخيفة لكل طامح في موقع بالأزهر.

4- أفادت من صورتها المُعارِضة في صناعة وسيط غير مسبوق، أشعري لكن غير رسمي ولا موالٍ للدولة، وهو نموذج جذاب لجموع ضخمة من الشباب المُشمئز من النظام القمعي والمُبغِض للنخبة الأزهرية العلمية الرسمية والنافر عن التعلم على أيديها، وهي الصفات التي ظلت حاجزا تاريخيا بين شباب المعارضة الإسلامية المثقفة النشطة وبين الأزهر، والمؤثرة في اختراق المعتقد الأشعري له.

5- أفادت من تفكك جماعة الإخوان وتيه الشباب الجديد، وسعيه للدخول في أُطر مخالفة لكل ما سبق وانهار.

ومن الملاحظ أن بعض تلك العوامل تشابه سياق ظهور السلفية العلمية الحديثة في مصر، والتي أفادت يوما من توجه الدولة في قمع الإخوان والجهاديين! وتلك الأيام نداولها بين الناس.

هذا كان السياق العام لظهور تلك المدرسة، والآن سنبدأ في توضيح أهم خصائصها، وأبرز توجهاتها الداخلية.

# تكوين المدرسة.

تتكون المدرسة أيدولوجيا من بنائين ومُركبات عقدية وأيدولوجية ثلاثة: أولها، البنية المدرسية الإستاتيكية، وهي جسد الكيان، والمُسيطر عليه الأيديولوجيا الأشعرية الجديدة، في هيئة أشياخ مدرسيين تقليديين.

ثم البنية الكاريزمية الديناميكية، ورأسها المهندس أيمن عبد الرحيم، وهو مهندس مصري من نوابغ الثقافة الإسلامية، ومُحاضر ذاع صيته بدورات عنوانها (تأسيس وعي المسلم المعاصر)، وصديق شخصي لأحد رموز الشباب الإسلامي المستقل، وهو حسام أبو البخاري. ومجموعة أخرى منها الأستاذ محمد رشيد، وهو كهل متبحر مهتم بالأدب، وإن لم يكن أكاديميا.

كانت طبيعة علاقات م. أيمن عبد الرحيم قبل الثورة ألصق بالسلفية، لكن معتقده ليس من الأمور الواضحة، فهو شحيح الكلام في المواقف العقدية البيِّنة، كما أن بعض من يعرفونه تحدثوا عن أن ظن عدم تطوره الفكري في المعتقد، أقرب للخطأ، فقد تطورت مواقفه من المذهبية على سبيل المثال، من الموقف السلفي التقليدي، إلى الموقف الداعم للمذهبية الصريحة، بتأثير بعض أشاعرة المدرسة / بينما يُصرِّح أ. محمد رشيد بعدم أشعريته.

بالتالي فتكوين البنية الكاريزمية، ديناميكي، نفعي، فأيمن ناجح من قبل تأسيس شيخ العمود، وله توجه متصالح مع الأشعرية في أقل أحواله، ورشيد غير أشعري، بل حنفي صوفي، فالأرجح ماتُريديته، وهو ناجح على مواقع التواصل قبل الانضمام للمدرسة، وهو وإن لم يكن أشعري المعتقد، إلا أن أقواله تنميه بقوة للانضواء تحت راية الأشعرية الجديدة، إذ أن عداءه الظاهر للسلفية يجعله مرشحا مثاليا للتوجه الراديكالي في تلك المدرسة[2].

إذن فالتركيب العقدي الداخلي كالآتي: أشعرية جديدة (الكيان الرئيسي والتنفيذي)، ولا أشعرية لكنها متصالحة معها على الأقل.

أما من جهة تقسيم المواقف نحو السلفية، فهي بين راديكالية، استئصالية، ويمكن التمثيل لها بالأستاذ محمد رشيد، الذي دعا صراحةً في تسجيل صوتي له منشور على الإنترنت، إلى إبلاغ أجهزة الأمن المصرية عن السلفيين، ووجوب إهلاكهم، لأنهم دواعش يستبيحون دماءه، ويأخذون نساء المسلمين سبايا، حتى دعم رأي أصدقائه من الضباط في وجوب معاملة السلفي بما هو أدنى من معاملة الكلاب!

وبين مُحافِظة ظاهرًا، مثل المتفقه الشيخ أنس السلطان، تُظهر احترام الخلاف، لكنها تجهز المحاضرات، (لتقويم) تراث ابن تيمية -أو تقزيمه إن شئت!- أما أيمن فموقفه كما بيَّنا.

# التكوين الطوبوي للأشعرية الجديدة.

إن الصورة الطوبوية المقدمة من المدرسة، هي ذاتها التي نوقِشت في كتاب الأشعرية الجديدة، والجلية في كتابات د. سعيد فودة، وغيره من الأشاعرة الجدد، وهي كالآتي:

يتكون التاريخ الإسلامي من كل واحد، سند متصل من محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، إلى د. علي جمعة ومشايخ الأزهر والأشاعرة المعاصرين. وذلك السند المتصل الذهبي، طوبوي الشكل، مكوَّنٌ من علماء ربانيين يتوارثون العلم، ويدافعون عن عقائد الأمة ضد المنتحلين، والمعتدين على (أهل السنة الأشاعرة والماتُريدية). والعقيدة الأشعرية هي فخر الدنيا، أم العقائد، فهي سيدة العقل، وملكة النقل، والمذاهب الأربعة ملتحمة عضويا بتلك العقيدة، فلا مذهب دون أشعرية وماتُريدية، ولا أشعرية وماتُريدية دون مذهب. ووظيفة العلماء الحفاظ على الموروث الذهبي، وإبقاء السلسلة الطوبوية حية إلى يوم الدين، ومنع تسور الغلاة والخوارج والحشوية والمجسمة إلى هذا القصر المَشيد، موطن أهل السنة، وبالتالي وجوب عدم التهاون في نبذ علماء تلك الطوائف، وبيان أنهم خصوم أهل السنة. ولما كان جمهور أولئك في عصرنا، يستمد التنظير من ابن تيمية، الذي هو أشد فتنة فكرية وعقدية أصابت المسلمين وأهل السنة تحديدًا، بمحاولته كسر سلسلة الذهب الممتدة بين من كانوا قبل المتكلمين، ومن تلاهم، وصولا إلى الأشاعرة، والاستيلاء عليها لصالح الحشوية المجسمة الكرامية المجرمين، الذين ينثرون مقالات ونظريات الوثنية المتحلفة بالإسلام، والذين يحاربون أهل الله الصوفية =فالواجب التركيز دوما على كسر ابن تيمية، وتقزيمه، وفضح سفسطته وقرمطته إن أمكن، وبيان تضارب أقواله، وتدليسه على الأئمة، وخطورة لوازم مقالاته الكفرية، التي لا يُعذر فيها إلا بالتأويل، أو الجهل، ولم يكن استعمال ابن تيمية للمنهج الكلامي في هدم علم الكلام ذاته، ونُصرة الخوارج والغلاة، والمجسمة والحشوية والكرامية، إلا بليَّة كُبرى، يجب على الصادقين الاجتهاد في دفعها.

وسيلزم من هذا كله، الحزم في مواجهة أتباع ابن تيمية من السلفية المعاصرة، وإفساد محاولة بعض متأخريهم التمذهب، فالمذاهب جزء من الكيان العضوي الأشعري الماتُريدي، والتخلي عنها لصالح أولئك الفسقة الجهال، المتطاولين على ذات الله، قد يُعطيهم شرعية، فالمذاهب الأربعة، كالمنطق الأرسطي، بنات علات للأشاعرة، أي أهل السُّنَّة، وعليهم منع الاستيلاء عليها، من الخوارج والغلاة والمبتدعة الضالين.

فما هي الصورة المثالية؟ إنها محو السلفية، ومحق آثار العدوان التيمي السلفي الجائر على المشهد الطوبوي الذي كانت تعيشه الأمة قبل هذا الضال، فتعود السلسلة إلى انتظامها دون تشغيب ولا جعجعة، وتُجمع الشراذم مرة أخرى تحت راية الإله الحق، إله الرازي، الذي هو تفصيل لإله محمد بن عبد الله وكافة الأنبياء.

فغضب الأشاعرة الجدد، واشتعال نفوسهم ضيقا من السلفية، له مبرره عندما تنظر للصورة من صفوفهم، خاصةً الأشاعرة المصريين، الذين يحملون ضعفي مرارة غيرهم: فهم يضيقون بهذا الغزو التيمي الوهابي للدولة الأقدم تبنيا للأشعرية كمذهب رسمي في العالم الإسلامي، والمسجد والأكاديميا الأكبر رعاية لها في التاريخ الإسلامي، وهو غزوٌ لم يلق فيه السلفيون كيدًا من الدولة، مجاملة للوهابيين الأثرياء. أضف إلى كل هذا، ذاك التحامل على أنفسهم من أجل عدم (الصدام) مع جمهرة الشباب، الذي يحمل تقديرًا لرمز سلفي أو لآخر، وبالتالي وجوب بذل الوسع من أجل الحفاظ على مقاربة هادئة تقزِّم ابن تيمية بأقل استفزاز ممكن.

والمدرسة وإن كانت شحيحة الإظهار الفج لخصومة السلفية وابن تيمية، واستهدافها تجييش الشباب في صفوف (دعوة الحق) الأشعرية الجديدة، إلا أن النكهة الفكرية لخريجيها والأوفياء لها، قد تشير إلى بعض من تكوين (المطبخ) الداخلي فيها! وقد رأينا بعض من ولجها صفحةً بيضاء، خرج منها بعد أقل من عامين، عدوًا لدودا للسلفيين، يحط من قدر ابن تيمية متى جاءته الفرصة، وينظر بالاستعلاء الواجب نحو أولئك الإسلاميين الحمقى ممن يقدرون السلفية أو ابن تيمية وابن القيم، هذا وليس في المدرسة درس عقدي منتظم أو صريح!

إن الفارق بين الإسلاموطوبيا السلفية، والإسلاموطوبيا الأشعرية الجديدة، أنه برغم اشتراك كليهما في مفهوم (الشيخ الوالد)، الذي ذُكِر سابقا، إلا أن الأولى تُغالي في النبوغ الشخصي والطفرات، فالشيخ الوالد عندها كُلِّي المعرفة مُمكن الظهور في أي وقت، ويجوز له أن يُجدد العلوم أو ينقد قول المذهب. بينما عند الأشعرية الجديدة، التي تُغالي في مفهوم اتباع الأشاعرة المتقدمين، ووجوب التزام المذاهب، وزجر الخارجين عليها، لا يكون الشيخ الوالد إلا العالِم الحافظ لعقائد ومناهج الأشاعرة وحدهم. إن النبوغ في الأولى إبداع (لا ابتداع)، بينما في الثانية حفاظ (لا اتباع). فكأنما نقيض جيتو النوابغ، نفي إمكان نبوغ أفراد المتأخرين، واستقلالهم برأي جديد.

وتشترك الفئتان في تقدير الاعتزال، وتقديس العلوم الشرعية، ولأنس السلطان، المؤسس، مقال يعرض فيه رؤيته تلك، ويرى أن الحل يتمثل في الإكباب على علوم الشريعة.


# تحديات الظاهرة، وإمكانات تطور الطوبيا.

برغم الحجم الضخم للمدرسة، إلا أنها تجابه مجموعة من التحديات، أولها الرقابة العامة من الدولة على كافة قوى المجتمع المدني، خاصة ذات التوجه الإسلامي، إذ اعتُقِل أيمن عبد الرحيم، أشهر محاضريها، قبل عام، وبغيابه انكشف بعض ما في الكيان من راديكالية خفية، واعتُقِل سابقا مؤسسها، الشيخ أنس السلطان، لأشهر، كما شهَّر به الإعلام العلماني في العام الماضي، حينما أجاب عن مسألة فقهية عادية بإجابة مذهبية تقليدية، لا شيء فيها، لكنها استُخدمت للنيل منه.

فالغالب أن الدولة تراقب الظاهرة بحذر، وقد تكون المدرسة مدينة في بقائها حتى الآن، وسط أجواء متوترة وثقيلة لا تسمح لأي كيان بالبقاء، ونظام يضرب بيد ثقيلة كل جمعية اشتملت على صفتي التعليم الشرعي، والميول المعارضة أو المتحفظة من النظام = إلى تضارب الرؤية حول التعامل معها؛ فالكيان يلقي دعما من أزاهرة، لا محالة، ولا يبدو مشروع الرواق الرسمي كافيا كوسيلة أزهرية ملائمة لاختراق وقود المعارضة الإسلامية الذي لا ينضب، المراهقين والشباب المثقفين أو الناقمين من السلطة. فالرؤية البسيطة، قد تنظر للمشروع باعتباره خطرًا يجب قمعه، والرؤية المُركَّبة، قد تميل إلى وضع الرأي الأزهري الأشعري في الاعتبار، وبالتالي، قد يكون هذا التنافر هو الحافظ لوجودها إلى الآن. وهو يذكرنا بمبدأ (أبقه حيا، وضايقه) أو (إياك وقتلِه، وإياك وتركِه) الذي استعملته الدولة المصرية مع السلفية قبل الثورة.

إن النظرة المُركَّبة للمكاسب غير المباشرة من هذا المشروع، ونشر الأشعرية الجديدة، خاصة في أوساط المرشحين لتبني الفكر الإسلامي من الشباب، يُبيَّن لك وجها آخر من أسباب هذا التعامل: إذ أن تلك الإسلاموطوبيا ستضع حاجزًا نفسيا عند شباب العمود، من التُراث السلفي والتيمي، وهو التراث الذي ظل أحد الروافد الكبرى والرئيسية للحركة الإسلامية طوال القرن الماضي، خاصة عند الصور الراديكالية منها، وبالتالي سيُحدِث هذا حالة من الانقطاع المعرفي عند الشباب، مع تراث الحركة، الذي سيُنظر له بعداء واحتقار، يتناسب طرديا مع قدر الاتكال على الأفكار غير المؤسسة أشعريا. إن حالة الانقطاع المعرفي تلك، ستكون نافعة لا في مجرد النُكر على الإسلاميين، وخاصة المقاومين منهم، إنما في البحث عن مصادر معرفية أخرى، مثل البوطي وعلي جمعة وأشباه أولئك، ممن لهم مزيد هيبة واحترام في شيخ العمود، ويُنظر لهم دومًا كعلماء ربانيين (نُخالف رؤيتهم) عن السلطة! شاب العمود المثالي سيخالف أولئك، لكنه سيرجو لهم -سادته وأوليائه، علمائه الربانيين- الهداية والصلاح! وتلك رؤية لا تُشاكل من قريب أو بعيد رؤية الإسلاميين لأولئك المُفتين باستباحتهم، والمُحرضين على دمائهم، والقاضين بإعدامهم، إذ أن الإسلامي يرى أولئك كلاب سلطة، ويؤمن أنهم الصورة المُعممة من فاعل الضرب، الذي يستبيح حريمه وأهله، وشتان الفارق بين تلك الرؤية، والرؤية الإسلاموطوبية للعمودي من الأشاعرة الجدد! إن تلك المدرسة، قد تُفلِح في صناعة رابط سيكولوجي بين الشباب الجديد، صاحب الميول المُعارِضة، وبين الأشياخ الأزاهرة الرسميين، والوسيط غير المباشر للنظام، وهي رابطة ذات منافع كبرى حاضرًا ومستقبلا، أتركها لخيالك!

لكن ماذا عن المخاطر المحتملة من هذه المدرسة؟ ما دامت جامعة لكل تلك الفوائد، لم توجد مُضايقات إذن؟

لأن طبيعة الظواهر الإنسانية عدم الانضباط، وكل جمعية تحتاج لرقابة صارمة، إذ أن التوترات الداخلية، والانقلابات والتحولات النفسية والفكرية، قد تجعلها تُدار في توجه مفاجئ لم يحسب له أحد حسابًا! وهي حقيقة معلومة، يعرفها الأزاهرة قبل غيرهم، فبدون قمعهم المنتظم لحاملي الدكتوراة السلفيين، أو المرشحين لمناصب كبرى في المؤسسة، كان يُمكن في لحظة، خاصة بعد الثورة، أن يقع الأزهر في أيديهم، ولأنس السلطان نفسه حادث شهير، حينما رُشِّحَ شيخ سلفي لمنصب بعد الثورة يكون له فيه جزءًا من السلطان على الأزهر، أو التعليم الشرعي، إذ ثار وغضب وصال وجال وأظهر وجهًا لم يعتده أحد منه، خشيةً وصول رجل على غير (المعتقد السليم) إلى كرسي السيادة، ولعل ردود الفعل الغاضبة التي جابهته، والتي صُدِمت منه، ووبخته، كانت درسًا له، ساهم في ميله لإظهار الوجه المُحافظ عند تأسيسه العمود، إذ علم أن شعبوية التيار السلفي، لا يسمح له بالجهر بما في أحشائه بأريحية.

إذا علمت ذلك، فأخبرني: ماذا سيحدث إن تحولت المدرسة إلى بؤرة جديدة للمُعارضة، لكن بدلا من التنظير الإسلامي التقليدي الذي كان المكوِّن السلفي جزءًا لا ينفصل عنه، يتحول التنظير المُعارِض إلى إسلامي أشعري؟ وبدلًا من الاستدلال بكتب ابن تيمية، وفتاويه بكفر الممتنع عن تحكيم الشريعة، ووجوب قتال المرتدين = يُستدلُّ بكتب الأشاعرة من الشافعية وفقهاء المالكية وأئمة الأحناف على نفس المحتوى! ثم أليس من الممكن أن تتخذ تلك الحركات حينها من المقاومة المسلحة الصوفية الأشعرية والماتُريدية، كحركة طالبان، نبراسًا تأتمُّ به في تنظيرها وحراكها المطلوب؟

هذه كلها إشكالات قد تكون سببا في استخدام المبدأين اللذين ذكرتهما سابقا، في صورة تعامل الدولة الحالي مع الأشعرية الجديدة غير الرسمية – شبه المعارضة، ولا يجب أن ننسى أن تلك الصورة من التعامل غير أبدية، فمن الممكن أن تغلُظ وتتحول إلى مطاردة وغلق ومنع في لحظة. فالأمن المصري أمن نظام، لا أمن عقيدة أشعرية!

بقي في النهاية توضيح أسباب ندرة الكتابة عن مدرسة بهذا الحجم، ومخاطر التعرض لها:

§  فأول الأسباب خشية إثارة الدولة، فنقد ظاهرة جديدة، وإن كانت مُقيَّدة، أو جزئية الاستقلال، يظل فعلا مُقلِقا، إذ أن سبب استثنائها الجزئي يظل غامضا، وفي زمن الإعدام، يُصبح الحبس مثيرا للريبة في باعثِ التفضل والاكتفاء به! ُم أيعني هذا الباعث الغامض ترك الحبل على الغارب لناقدي المدرسة، أم يعني مُلاحقتهم؟!

§  وثانيها، خشية الألتراسات، وهي ظاهرة سنناقشها في الفصل التالي، إذ أن جمهور العمود، شباب ذو ثقافة وهِمَّة، وإجادة لاستخدام مواقع التواصل، ما يُهدد بالتعرض لحملة تشويه كبرى، أو حملات إغلاق أو حذف للمنشورات على مواقع التواصل، فقد تعرض البعض لحملة بلاغات كبرى بمجرد نشره تسجيلًا صوتيا يفضح الخطاب الاستئصالي للأستاذ محمد رشيد، وحُذِف منشور التسجيل بالفعل، واضطر لرفعه في مكان آخر. وسنرى لاحقا أن رد فعل الألتراسات في عصر مواقع التواصل مما تضعه حتى التنظيمات المعاصرة الكبرى في حسبانها.

§  خشية إغضاب جمهور المهندس أيمن عبد الرحيم، وهو الذي يرى شيخ العمود من عدسته لا غير، فك الله أسره، وبالتالي يُعرِّف المشروع بناءً على رؤاه، وهو جمهور ضخم، سيزيد من وطأة ضغوط الألتراس.

§  خشية إثارة المرتبطين بالمشروع من الإسلاميين ومشاهير مواقع التواصل، وهُم كُثر، سواء كان هذا الارتباط عضويا، أو شخصيا. وكذلك الخوف من إثارة المحايدين مع المشروع، أو الذين يرفضون أي تفسير كُلي أو شمولي ينطلق من تحليل السياق السياسي والاجتماعي والعلمي، والخشية من الوصم بعقلية المؤامرة.

وأخيرا، يُلاحظ شيوع الانفعالية، وعدم التنظيم، والجزئية، والشخصنة، في النقد الموجه للمؤسسة.


للاشتراك في قناة اليوتيوب: المشكاة



[1] من الجلي أني أنطلق من مقدمات لن يقل الجدل فيها ولن يتوقف، وهي أن الأشعرية والاعتزال ليست عقائد أصيلة بل معتقدات نتجت من منهج فكري وافد نُظِر إليه يوما بما يفوق مكانته، مع كامل إجلالي للأئمة من كل مذهب، ومن مثل القاضيين عبد الجبار والباقلاني رحمهما الله؟ / وكذا أن المدرسة أقرب للتعبير عن التوجه الفودي برغم تخففها من العداء السافر الصريح / وأن السلفية منهج ساعده ثراء دولة آل سعود في الانتشار، بغض النظر عن صحته، مع إجلالي الكامل وانتمائي للسلفية منهجا للتفكر في الاعتقاد وأنها أمثل لعقيدة أهل السنة من غيرها، هذا وأنا أعلم يقينا أن النزاع في كل ذلك لن ينتهي، وأن هذا الموقف أجلب لذمي من الجميع؛ لكن هذا معتقدي، فإن أصبت أرجو أن يغفر الله لمن أساء لي، وإن أخطأت أرجو أن يغفر الله لي إساءتي، والهداية لي ولجميع المسلمين الرجاء.

[2] ومن الواجب ذكر اختلاف بعض المقربين منه مع هذا الرأي، واعتذارهم لتسجيلاته وكتاباته المحرضة على السلفيين بأنها نتاج انفعالي لا توجه حقيقي دائم، وله كلام طيب عن رموز سلفية أخرى، فلنا الظاهر ونرجو له أن يكون أحسن مما نظن، والله أعلم.


2 تعليقات

  1. جميل جدا يا دكتور عمرو.. كالعادة سباق ومتفرد في أطروحاتك ومبدع في تحليلك للظواهر التي قلما يتحدث عنها أحد كالنيو أشعرية.. بقي عندي تساؤل بخصوص هذا المشروع وهو : ألا يوجد احتمال بأن يكون هنالك دعم غربي لهذا المشروع بعقيدته الأشعرية-الصوفية بالنظر إلى توصيات راند بتعزيز ودعم الإسلام الصوفي كبديل عن الإسلام بصورته المناهضة للنظم الغربية؟

    ردحذف
  2. لا.. الظن فيهم خير.. وليس هناك أي دليل على دعم خارجي لأي سبب.. ولا هم يقدمون أنفسهم كمصدر للتصوف بصورة رئيسية أصلا..

    ردحذف

إرسال تعليق

أحدث أقدم