العصفور (رواية) - الحلقة الأولى: أكرم وبثينة.



أكرم هو زوج الدكتورة بثينة، شاب في أواخر العشرينيات، ملتحٍ، مهذب خلوق، هادئ الصوت، لا أذكر أني خلال زمن وجودي في هذا المصنع - برغم كل الأعاجيب والمنغصات والمشاكل التي رأيتها - شاهدته غاضبا أو محتدا، فقد كان محافظا على (خصال المعمليين) البسيطة في مكانهم المستقل كواحة غناء وسط ساحة قتال!
هو أول من استقبلني في المعمل، ودار بي في جنباته، وأخبرني بمهامي فيه، وعرفني إلى بثينة مديرة المعمل، ولم أعلم أنها زوجته حينها، ولم أحب صمتها وتعاليها السخيف، لكنني رضيت بأكرم رئيسي المباشر، وكان توجيهه مما يناسب شخصي، مترفقا هادئا، لا غليظا جافيا، أما هي فلا تنهض أبدا من وراء مكتب صغير جدا، عليه شاشة حاسوب تبحث فيه طوال الوقت عن تراكيب كيميائية جديدة للتجربة -وربما كانت تلعب دون أن نعلم!- وبجوارها كرسي صغير يجلس عليه زوجها في أحيان كثيرة ليتهامسا عن العمل.
ولم تكن الأعمال المطلوبة كثيرة، ولا مُعقَّدة، وقد ساءني منذ اليوم الأول أن وجدت تنظيف القوارير، وغسل الزجاج المُستعمَل، يكوِّن ربع الأشغال تقريبا! ومهامنا بين جزئين، أولهما البحوث على التراكيب المُمكِنة، وثانيهما التأكد من جودة المُنتجات المُصنَّعة واختبارها معمليا، كيميائيا وميكروبيا. فكان الأستاذ أكرم المسؤول هو وبثينة عن القسم الأول، لا يُشرِكان أحدا، ولا نعلم ما يصنعان أبدا، أما الأعمال الدورية (الشاقة) فقد وُزِّعت بيني أنا، وزميلي عُمر، وزميلتينا هند وسمر.
وقد ظللت نصف الشهر الأول ألتزم بكل توجيهاته، ولحِظتُ أنه تابع كليةً لزوجته، ورئيسته في العمل، وأنها ذات الأمر والنهي، غير أنها لا توجهنا ولا تجابهنا أبدا، وحدثني بعد أسبوعين في شأن كتبي، حينما وجد أني أميل، بعدما تنتهي فورة العمل، وذروة الانشغال، إلى قراءة أسفارٍ أحضرها معي يوميا إلى المعمل، فأستقلُّ بكرسي، وأقرأ، محاولا إنهاء وردي اليومي من الصفحات، فوجهني بلطف أن هذا مشهد غريب على العمل، وأنه لا يجوز، فارتج علي، ونظرت إلى زميلي عُمر الجالس لا يصنع شيئا، كالتمثال، وقلت له: ’لكني يا بشمهندس لا أفهم! ماذا في أن أقرأ؟ أتريدني أن أجلس مبحلقا في الفراغ كما يصنع عمر، أو منشغلا بالحكي كما تصنع الفتيات؟‘ فلم يُجبني بما يوضح لي موضع خطأي، ومما علمته عنه بعد ذلك، تيقنت أن هذا كان اعتراض زوجته، وربما (الريِّسة) نفسها!
وغضبت عندما أبلغني بتحويلي إلى قسم الإنتاج، ذاك المصنع الصاخب الصعب، وظللت طوال الوقت أتساءل: ماذا صنعت؟ لقد أديت مهامي على أتم وجه ممكن، بل وكان جليا أني أقدر على فهم الدقائق من زملائي، وأقرب لإجراء البحوث المطلوبة، ففيم كان الخطأ الذي استوجب طردي من المعمل؟ ولم يُجبني على سؤالي، وقلت لنفسي: أكان تحذيره من انهماكي بالقراءة، هو إنذار لما هو قادم؟ أخرجت من المعمل بالفعل لهذه العلة؟ أني أقرأ كثيرا، بينما لا يقرأ الباقون، ويظل كل واحد منهم جالسا كالصنم في مكانه لساعتين أو ثلاثة؟
وسألت إبراهيم ضياء يوما: أيمكن أن يكون هذا هو السبب؟ فلم يُجبني! إن أكثر ما كان يُغضبني أنني ظللت طوال الوقت أرى في أعين الجميع أنهم يعلمون الكثير بشأني، ولا يُبلغني أحد منهم حرفا عما يجري! هذا والجميع لا يتوقف أبدا عن الحديث في حضرتي بشأن كل إنسان غيري! كأنما غياب الشخص عن المجلس هو شرط معرفة حقيقة وضعه وما يُقال في حقه!
وقد كنت يوما مع الأستاذ وليد، موظف المخزن، وكان يحدث بيننا نقاشات عابرة لكن فيها طرافة، فجاء ذكر أكرم لسبب ما، فقال: ’هذا الذي فقه سُنة مصنعنا فصار من مستفيديها! إياك والغرر من مظهره المسكين! لا أحد ساذج وأحمق سواك!‘.
وأسررت هذا، ولم أسترسل معه في تلك الدعوى، لكن اعترفت بيني وبين نفسي بأنها لائقة ومفسرة للكثير، وكان أن زاد من قوتها، ما قاله لي إبراهيم لاحقا: ’ما الذي يدعو أكرم، الشاب الوسيم ابن الثامنة والعشرين، إلى الزواج بفتاة معدومة الجمال في السابعة والثلاثين؟! أنت رأيتها وعرفت أنها ليست لطيفة المعشر، والريِّسة تعدها للخلافة، ولعلها لم ترغب في أن تتزوج من الأصل! لقد لمح أكرم نُهزة، فسار على درب سنة مصنعنا، وتزوجها، وها هو العام الثالث يأتي دون إنجاب، وهو مشتاق إليه، فلعل علتها أكبر مما نظن جميعا!‘.
ولم يكن أكرم ذا علاقات سيئة أو حميمية مع أحد، إنما هي علاقات فاترة لا لون لها مع الكافة، علاقات (عمل) مثالية، ولم أجده يغضب إلا في يوم واحد لا غير، حينما حاول قسم الإنتاج تحميل المعمل مسؤولية كارثة الأطنان العشرة، هنا رأيته ينفعل، ويؤكد في حزم أن ذلك ليس خطأ رجاله، ولن يسمح بالتضحية بهم.
أما الدكتورة بثينة فهي خريجة كلية العلوم مثل الريِّسة، وهي بالطبع ليست دكتورة ولا حتى حاصلة على الماجستير، إنما أخذت هذا اللقب مثلها مثل رئيستها، بحكم السلطان القوي لا غير، وقد حرت في أمرها، فهل هي بالفعل سيئة المعشر، متسلطة؟ الحق أن بعد عام كامل قضيته، لم أجد فيها ذلك الطبع، الذي هو أوضح من رابعة النهار في الريسة، لكنها منطوية لا تتحدث كثيرا، ويتكفَّل بالتعامل مع الآخرين زوجها، مما يُعطي انطباعا بلا شك أنها الآمرة الناهية المنعزلة، ولا أدري أكان تحليلي هذا صحيح لعلاقتها معه، أم تحليل إبراهيم، وقد كان رأي أحمد كريم مخالفا، إذ قال لي: ’بثينة لم تتزوج إلا في الرابعة والثلاثين لعدم جمالها لا غير، فهي ليست سيئة المعشر. أسمعت صوتها يعلو يوما؟ أرأيتها تنهر أحدا يوما؟ وقد ساءت علاقتها حينا بالريسة حينما رغبت في تزوج أكرم، إذ كان المُراد منها أن تظل راهبة للشركة مثلما تعيش الريسة، لكنها ما إن تقدم أكرم لخطبتها، حتى ضاءت دنياها، وهي طيعة له، متى رأيتها يوما تأمره؟ فإن شئت الحق، قل إنها ارتضت إغضاب الريسة وغامرت بالتضحية بمستقبل مضمون كانت ترسمه لها، من أجل حبها لأكرم‘.
ولم تكن الريسة تتركهما في هناء، بل حدث أن بلغها يوما أن بين الزوجين مشاحنة، فاستدعتهما، ونهرت أكرم بطريقة ملتوية وماكرة جدا أمام زوجته، ثم انفردت ببثينة حينا، إلا أن الأخيرة خرجت بعدها لتعتذر لزوجها، وهو ما أثار غيظ الريسة بصورة أكبر، وعلمنا أنها قد حرضتها على التسلط في علاقتها بأكرم، وعدم السماح له بإغضابها، لكن بثينة صنعت النقيض فورا!
وقد ابتسمت حينئذٍ في حبور! إن بثينة ذكية حقا، هي تعلم يقينا أن الريسة تريد هدم بيتها، وتسعى في التحريش بينهما، ولن تسمح لها بذلك، وآمنتُ وقتئذ أنها تحب زوجها، وقلت لنفسي: لقد قضيا عامين قبل الزواج وحدهما في المعمل، فكيف لا يتآلفان ويحب بعضهما البعض؟
وقد رأيت بثينة تتسلط على أكرم في حادث واحد لا غير، حينما وقف لمدة عشر دقائق يتحدث مع هند، فتضاحكا لسبب ما، وأسمعا كل من في المعمل، هنا سمعت صوت بثينة يعلو للمرة الأولى في حياتي، مستدعية زوجها لشأن ما، وقد زوت ما بين حاجبيها، فجلس بجوارها مستكينا، وتهامسا وهي تشير إلى الشاشة في ضيق واضح، كأنما تريه تركيبة جديدة على الإنترنت، لكنني كنت متيقنا أنها (تؤدبه) في غمغمتها السريعة، ولم يُكرر أكرم ذلك الخطأ!
وكان من الطرائف التي علمتها، أنه خريج كلية علوم مثل زوجته، وليس له دراسات عليا هو الآخر، وبرغم ذلك لا تناديه الريسة أبدا إلا بلقب أستاذ، سواء أمام عامة شعب المصنع أو خواصه، وفي هذا أمر خفي للجميع أن نناديه بذلك اللقب وحده، وفي نفس الوقت لا تنادي زوجته أبدا في العامة إلا بلقب دكتورة، أما في الخاصة فتناديها باسمها مجردا، وفي هذا ترهيب للجميع أن من سيناديها بما تخصها وحدها به، سيزين رأسه باب المصنع!
وقبل أن أرحل بشهر تقريبا، جاءنا إبراهيم بخبر مفاجئ لطيف، إذ علمنا أنها حامل في الشهر الثاني، وقد كاد أكرم يطير فرحا، ولا أشك أنه هو من سرب الخبر، أما هي فكانت متطيرة صامتة رافضة للاختلاط بأي أحد، وكدت أهنئها فنظر لي زملائي باعتباري مجنونا، قال لي إبراهيم: إن هنأتها فأنت أول الحاسدين! إياك وأن تُظهِر أي علامة أنك علمت بالخبر حتى!
فلم أعلق على شيء حتى رحلت، ولم أعرف أبدا أكان لها يد في إخراجي من المعمل أم لا.

- يُتبعُ.

1 تعليقات

إرسال تعليق

أحدث أقدم