القبيح والسنيوريتا! كيف يُبقى اليسار الليبرالي الأيدولوجيا الأمريكية حية؟

في كتابه (الأيدولوجيا والسياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية)، يرى المؤرخ الأمريكي مايكل هانت أن سياسات الولايات المتحدة لها تصنيف أيديولوجي خاص بها، لا تندرج تحت الأيدولوجيات الاعتيادية العامة، عقيدة خاصة بالشعب الأمريكي نفسه منعكسة على سياسته الخارجية، وأركانها ثلاثة، منها:
1. الغرور القومي / العظمة القومية (أنهم أعظم الأمم ورواد الحريات).
ولهذا الغرور مصدران للإيمان، يعتمدان مفهوم القدر:
أولهما ديني:
ساد قديما في بدايات أمريكا، ويدور حول كون الأمريكيين شعب فريد، وأمته ذات قدر غير مسبوق، لا تسرى عليهم نفس القواعد التاريخية التي سرت على الأمم السابقة: من كون كل أمة لها زمن صعود وانهيار؛ فالأمريكيون قدرهم الصعود إلى يوم الدين وعلى الكل الخضوع لإرادة الله، كما يظهر في الحديث عن أمريكا كإسرائيل الجديدة، وبلد شعب الله المختار الجديد.
وثانيهما علماني:
ساد بعد عصر ما يسمونه بسلالة فيرجينيا [السلالة التي ستبدأ بجورج واشنطن من الحكام الذين شاركوا في حرب الاستقلال]، ويعتمد على خطاب علماني عن أن أمريكا زعيمة الكوكب في الحريات وأن العالم القديم مظلم بشكل عام بما فيه إنجلترا نفسها مقارنة بأمريكا الألوان والحريات ولديها كل الحق في نشر الحرية والحضارة في العالم فهذا هو (قدرها الإنساني) الذي حُمِّلته كأمة عظيمة، ويظهر هذا جليا في المصطلح الشهير (القدر المتجلي manifest Destiny) الذي ظهر في منتصف القرن التاسع عشر، وكان غرضه بيان أن توسع أمريكا في القارة الشمالية، على حساب المكسيك، وصولا إلى كاليفورنيا وساحل الهادئ، هو قدر واضح، لا يُمكِن معاندته.
2. الهرمية العرقية:
ويتلخص في الإيمان بأن الأعراق (مقامات) وأعلى إنسان في الأعراق كلها هو الأمريكي الأبيض الأنجلو ساكسوني خاصة. هذا الإيمان قد يختفي عن العلن زمنا لكنه متجذر في الشخصية الأمريكية السائدة وله آثار قوية طبعت السياسة الخارجية الأمريكية تاريخيا.
والهرمية العرقية والغرور القومي صنوان لا يفترقان في السياسة الخارجية الأمريكية.
***
وقد يُجادل البعض بأن الركن الثاني من تلك الأيدولوجيا الأمريكية قد اختفى بصعود اليسار الليبرالي، إذ تقدمت أمريكا عن القرن التاسع عشر، بل ومنتصف القرن العشرين، وكانت النهاية في عصر السيادة الليبرالية بعد الحرب العالمية الثانية ثم موجة الحقوق التي قادها اليساريون في السبعينيات. فهذا الخطاب وإن كان ما زال حيا في الشعب، إلا إنه في السياسة الخارجية قد انتهى.
ودليل هذا أن سياسات عصر أوباما المتأثرة باليسار خارجيا قد أنهت هذا المُركَّب تماما؟
***
سنعود إلى مايكل هانت قليلا:
يرى هانت أن تعامل الأمريكيين مع غير السود* من اللاتينيين تحديدا كان ذو وجهين:
وجه الذكر اللاتيني، ووجه الأنثى اللاتينية!
إذا تجهزت أمريكا للحرب مع المكسيك في منتصف القرن التاسع عشر، يُستدعى خطاب الذكر المنمط اللاتيني، الكسول الكاذب، الوضيع عدو الحرية المتعصب دينيا، القاتل الخائن بالفطرة، حتى قيل عنه إنه ينتمي بشكل عام إلى (الجنس الشيطاني المسمى بالهنود الحمر) لأن لونه الأبيض لوِّث بالتهجين معه!
فمثل هذا الذكر لابد من قتاله والعنف معه، ولا يمكن مصالحته طويلا!
ستسأل نفسك: من صنع هذا التنميط؟
يتهم هانت بصورة واضحة الزوار الأمريكيين للمكسيك والبلدان اللاتينية، الذين ظلوا لعقود قبل غزو المكسيك ينشرون هذه الصورة المنمطة للذكر اللاتيني في أمريكا، وكيف أنه كائن غير متحضر، وعاداته وثقافته همجية بربرية، ويذكرك هذا فورا بالمستشرقين الأوروبيين وزيارات السائحين الرحالة إلى العالم العربي، وكيف كان جمهورهم يتعمد قبل عصر الاستعمار التوصيف بالهمجية أو التأخر أو عدم التحضر، وبالتالي بث هذه الصورة المُنمَّطة في الداخل الأوروبي.
لكن هل ينتهي الأمر هنا؟
لا! يقول إن صورة الذكر اللاتيني المُستدعاة في الثقافة الأمريكية خاصة في وقت الحرب، تتحول إلى صورة الأنثى اللاتينية في الثقافة الأمريكية التي تُستدعى في وقت السلم: السنيوريتا الجميلة الحزينة التي تأمل أن ينقذها الأمريكي الشجاع الحر من زوجها الفظ الغليظ، والمقهورة التي تنتظر هذا الوسيم الأمريكي كي يضمها إليه وإلى بلده!
هذان الخطابان استُعمِلا بالفعل في خطاب صناع سياسات أمريكا الخارجية في وقتي الحرب والسلام بالقرن التاسع عشر! وهي جزء (متغير المظهر الخارجي) من السياسة الخارجية الأمريكية إلى اليوم.
***
في سياسات (اليسار الثقافي) الأمريكي، ستجد نفس الأسلوب في تنميط الأعراق والشعوب في تفاصيل القضايا!
الأمريكي صار داعما للوطية والنسوية؟ إذن على باقي الأمم دعمها بحماس، والخضوع فورا للأيدولوجيا الأمريكية، للأمة العظيمة المُقدَّر لها نشر التحضر والحرية، وللعرق الأسمى (الذي ! لن يُسمح بأي ثورية لخطاب معادٍ!
لكن التنميط اليسار له مظهر آخر:
فبينما كان للعربي المسلم طيف ضيق من الأنماط استمر في الظهور طوال قرن، فهو إما خبيث خائب كسول جبان شهواني، النمط الذي استمر في الظهور إعلاميا إلى ما قبل عصر (11 سبتمبر) / ثم القاتل السفاح الشرير المحب للدمار بعدها!
وحين جاء عصر اليسار، منقلبا على سياسات بوش، وبدأ منذ ذلك الحين تيار أمريكي يساري يرفض (النمط) الإرهابي للذكر العربي / أو المسلم البني عامة [بحسب تصنيفهم اللوني الوضيع الذي يختزلنا جميعا في لون بشرتنا] = استعمل هذا اليسار أداة الإعلام قبل سنوات في مسلسلات مثل رامي، ومؤخرا في مسلسل من مارفل تظهر فيه الأسرة المسلمة وفتاة (بطلة) مسلمة، ومحجبات، وكذا.
هذا التوجه اليساري في (إظهار العربي/ البني الطيب) هو نفسه الركن الثاني الأمريكي!
نفس ما حدث قبلا مع لعبة (الذكر اللاتيني - الأنثى اللاتينية) يحدث هنا: العرق البني هذا فيه أناس طيبون [علمانيون، أو كارهون للشرائع الهمجية مثل القرار في المنزل، والحدود، أو لوطيون، أو نسويون]!
هذه الموجة التي يحتفي بها البعض باعتبارها (تغير الصورة عند الشعب الأمريكي) ويدعمها بعض العرب رسميا سواء بالمساعدة على نشرها أو مدحها - هي في الحقيقة استمرار لسياسات الهرمية العرقية، المتخفية في صورة (الليبرالية الأمريكية)، والإبادة الثقافية وتنميط الآخر:
يُظهر لنا كتاب هانت أنك فقط لم تكن تدري الحيل المتنوعة لهذه السياسة، ومنها حيلة النمطين التي استُعمِلَت مع اللاتينيين: نمط أسود مظلم يجب القضاء عليه وإبادته ثقافيا أو شده إلى الحضارة عامة - وإن كان هذا مجهودا عبثيا - ونمط أبيض حزين مقموع من النمط الأسود السائد ويريد الحرية الأمريكية واتباع الأيدولوجيا التي تبشر بها (أعظم أمة في التاريخ، وأعظم عرق في المخلوقات)!
إن كانت سياسة الديمقراطيين وأوباما ثم بايدن حاليا ممثلة لليسار الليبرالي، فهي برغم قناعها المخالف للتوجهات اليمينية، تحافظ على نفس الحس التبشيري الفخور في الأيدولوجيا الأمريكية الخارجية، بل هي أشد رفضا للتنوع الثقافي وعداءً للأديان الأخرى المخالفة من غيرهم، واقرأ عن الحرب التي خاضها نظام أوباما لإدراج اللوطية من حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، وقمع المخالفين وفي رأسهم العالم الإسلامي، وهي الحرب التي نعيش للأسف آثارها إلى اليوم!
وانتظروا فيما هو قادم مزيدا من إدخال المسلسلات الأمريكية لصورة (الأنثى اللاتينية = العلماني البني) وتنميط المسلمين في صورتين: مسلم متعصب مظلم يجب القضاء عليه - ومسلم [غالبا أنثى، ولاستكمال المهرجان: ستكون أحيانا لوطية] منفتح ثائر على الظلام (البني / غير الأمريكي) وداعٍ إلى الحلم الأمريكي الملون، الذي يبشر به اليسار الأمريكي!
من هذا المنظور يمكنك إدراك كيف أن الأيدولوجيا الأمريكية باقية إلى اليوم.. لا يسار ولا يمين ولا شمال ولا جنوب!
الكل يحمل نفس المعتقد لكن بمظاهر مختلفة: نحن الأمريكيون أعظم الأمم، وبلدنا نبي الحرية.. والآخر إما عدو أو لاجئ!
--------------------
* قديما حينما كان السود أقل فئات الأمم، وكلما [تلوث] البياض بلون آخر مثل الأصفر الآسيوي والأحمر الأمريكي الأصلي والبني العربي، مثلا، كلما دخلت نسبة من السواد عكرت اللون وخفضت مرتبة العرق!



Post a Comment

أحدث أقدم