براءة شيخ الإسلام ابن تيمية من القادحين في الإمام الأعظم.

بسم الله الرقيب، المُقدِّم المؤخِّر،
يحدث أحيانًا أن يكون سؤالُ المُسلمِ إخفاءَ مُعتقدِهِ خطأً فاحشًا، ويصير حضًّا على النفاقِ، والتصريحِ بعكس البواطن، وبثًّا للهَزَاهِزِ في صفوفِ المؤمنين، وختلًا للمبصرين عمن في أحشائِهم من زائغين ومؤلبين.
ومن الناس مَنْ إذا اندس تغلغل، فلا تفطِنُ لأثره إلا بفورانِ القيحِ، ووجوبِ الكيِّ، وصعوبةِ البُرءِ.
وقد ظهرتْ فينا فتنة جديدة، هي بعث لسالفة قديمة، كان الله قد محقَ انتشارها قرنًا تلو الآخر، حتى انبرى لها أقوامٌ كأنهم أقسموا أن ينفخوا في جمرِها، يحسبُ صالحُهم أنه بفعلِه هذا أسدٌ للسُّنةِ، وحارسٌ للاعتقادِ، ألا وهي فتنةُ الطعنِ في أحدِ أعلامِ المسلمين، وأكابرِ أهلِ السنةِ، وهو الإمامُ أبو حنيفة النعمان رحمه الله.
وكان من سوء حظ المذهب الحنبلي المنكوب بالمسرفين في نقده، والغالين من أهله، أن كان جمعُ رؤوس الفتنةِ الجديدة من صفوفه، يحسبون أنهم يحققون السلفيَّة الحقَّة، وينصرون أهل السنَّة الأنقياء، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
ولم ألتفت لشيء في دعواهم - فكم من مُدَّعٍ في زماننا - قدر زعم بعضهم أن هذا هو ما عليه أهل السُّنَّةِ إجماعًا، وبالتالي طعنهم فيمن ذم مقالاتهم، ونسبته تارةً لأعداء السلفيَّة والسُّنَّةِ، وتارةً للأشعرية، بل حتى للإنسانويَّة والليبراليَّة، التي تسللت لصفوف الإسلاميين الحركيين، فأثَّرتْ في هذه المسألة! وقد سمعنا وقرأنا الكثير من أعاجيب قول رؤوس تلك الفتنة، ومن ذلك أن ابن تيمية نفسه رحمه الله تأثر بزمانه في مدح الإمام أبي حنيفة.
وقد سألتُ أنا وغيري، ممن تعرفوا على السلفيَّة، وتقارير العقيدة السُّنيَّة، من كتب ابن تيمية رحمه الله، ومن هم في مرتبة تلامذته، أن كيف يُعتقدُ أن هذا مذهب أهل السُّنَّةِ، وأن من خالفه فيه نوع بدعةٍ، ينتقون له ما يناسبه، ثم يُقرر شيخ الإسلام ابن تيمية نقيضه؟ ولا أقول خلافه؛ بل نقيضه! هم يسبون ويُحقِّرون، وهم يُعظِّم ويرفع، ولا يكتفي بصمتٍ أو إمرارٍ يُفسِحُ لهم ساحةً لتأويل موقفه!
وقد وجبَ على مُحبي الإمام ابن تيمية رحمه الله بيانَ موقفِهِ، وبراءتِهِ من مقالةِ الطعنِ أو القدحِ، كي يُصبحُ الإنسان على بصيرةٍ من أمره، ويتبع المتبوع أولئك الثلة وهو عالمٌ بأنهم مخالفون لما استقر عليه أهل السُّنَّةِ، وما قرره الأئمةُ العِظامُ المتأخرين.
فاقرأ ما سننقله عن الإمام ابن تيمية، ثم تدبَّر: أهذه مقالة رجل يضلل أبا حنيفة ويراه مبتدعا مضلا يجب أن يجترئ على الاستهزاء به الناس؟
فالإمام ابن تيمية قائل بكون الإمام أبا حنيفة من أئمة الإسلام، ففي المجموع، الجزء السابع عشر، الصفحة 77: "وهذا الظن لم ينقلوه عن أحد من أئمة الإسلام كمالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة والثوري والأوزاعي".
وهو القائل بكون الإمام أبا حنيفة من أئمة السلف ورواد زمانهم: ففي المجموع، الجزء السابع عشر، الصفحة 87، حينما عرَّف السلف الذين اجتهد دوما في بيان عقائدهم لاتباعها، قال: "هذين القولين لا يقدر أحد أن ينقل واحدا منهما عن أحد من السلف: أعني الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين المشهورين بالعلم والدين الذين لهم في الأمة لسان صدق في زمن أحمد بن حنبل ولا زمن الشافعي ولا زمن أبي ‌حنيفة ولا قبلهم".
وهو المُثبِتُ لقول الأحناف والإمام أبي حنيفة في مئات المواضع من بحوثه، سواء مقارنة، أو استعراضا للمقالات، واصفا أبا حنيفة بالعلم والإمامة، فمثلا، في المجموع الجزء الثامن عشر، الصفحة 128، يقول: "وعامة العلماء كأحمد وأبي ‌حنيفة وغيرهما متفقون على تحريم ذلك وهذا أظهر القولين في مذهب مالك".
وأعجب من ذلك كله وأصرح، تعليقه على حديث [المرء مع من أحب]، حينما ينقل قول طائفة من الناس رفضت الجزم بالجنة لأحد غير منصوص عليه من النبي صلى الله عليه وسلم فقط، وكان ظاهر كلامه مخالفته إياها، وموافقته أن الأصح الجزم بالجنة لغير من نصَّ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم. فانظر تعليقه وضربه لأمثال الناس الذين يصحُّ أن نجزم لهم بالجنة بإذن الله، وتدبَّر طويلا معنى هذا الكلام منه في المجموع، الجزء الثامن عشر، الصفحة 314: "من استفاض من بين الناس إيمانه وتقواه واتفق المسلمون على الثناء عليه كعمر بن عبد العزيز والحسن البصري وسفيان الثوري وأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والفضيل بن عياض وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي وعبد الله بن المبارك - رضي الله تعالى عنهم - وغيرهم شهدنا له بالجنة" (المجموع ج 18 - ص 314).
وسواء جادل البعض بأنه لا يوافق قول تلك الطائفة أم لا، فيكفي تقريره اسم الإمام أبي حنيفة النعمان من بين كبار الأمة ممن استفاض بين الناس إيمانهم وتقواهم واتفق المسلمون في الثناء عليهم! 
أتحسبون لو كان الإمام ابن تيمية - وهو المُسهِب الذي لا يُفوِّت حرفا دون تفصيل وإطالة - يرى أبا حنيفة رضي الله عنه كافرا أو ضالا أو مبتدعًا؛ كان يسكت ويمرر هذا الكلام أو ينقله كما هو دون تعليق؟
والنقولُ متواترةٌ، نكتفي بما ذكرناه منها، وفيه الغَنَاءُ.





أحدث أقدم