سلالة أنيس منصور!

 قديما، في زمن الكتاب والقلم، كان أنيس منصور زعيم التجهيل المنهجي، ورائد الإثارة الرخيصة، فكان كتاباه (الذين صعدوا إلى السماء)، و(الذين هبطوا من السماء)، هما تسلية ثلاثة أجيال على الأقل، كلها كانت تنشأ على (علم زائف) مصدره كتب منصور التي تُمطِر أهل العلم بأسئلة لا حصر لها، وتبين العلماء مجرد هواة، (رجال قش)، ثم تشرع في تقديم تفاسير قائمة على الخرافات ولا تحل إشكالا إلا وقد زادتنا ألف إشكال؛ غير أنها تزعم في براءة كونها (مجرد تفاسير) تستحق أن توضع جوار تفاسير العلماء الحقيقيين رأسا برأس، بل هي تفوقهم لأنها تحل الإشكالات كلها وتقدم الإجابات جميعا!

فإن قيل بل هذا علم زائف؛ قيل إن المعترض (عبد الغرب) الذي ضللنا بعلومه التي وضعها!
اليوم عندنا أحمد عدلي، شاب أصابه هوس في الكلية منذ قراءة الكتاب الفريد (الفراعنة لصوص حضارة)، والذي كتبه شخص اسمه (محمد سمير عطا)، متطفل على العلوم، لا هو من أهل المصريات، ولا أهل العلم أصلا، وقد زعم فيه أن قوم عاد هم بناة الأهرامات، وأن تأمله في القرآن دله على هذا، فالقرآن فيه أي شيء في الدنيا (وهذا كلام محمد سمير عطا بنفسه على قناته، فهو من متطرفي فكرة الإعجاز العلمي في القرآن).
وبتأثير هذا الكتاب صنع أحمد عدلي لنفسه مدونة أطلق عليها إرم ذات العماد، بث فيها دجله عن الحضارة المصرية القديمة.
ثم تطور طرح عدلي هذا في اتجاهين، أولهما أن مدونته نقلها إلى سلسلة مرئية صُنِعَت على نفس منهاج كتب أنيس منصور، متبعة نفس الأسلوب الرخيص في الإثارة (المرئية هذه المرة)، والإمطار بأسئلة يزعم أنها بلا إجابات، وتحويل كافة علماء المصريات إلى متعصبين لا يقبلون الرأي الآخر، وحمقى لا يتبعون الدليل الواضح، وهواة لا يلاحظون ما لاحظه هو وشيعته الدجاجلة، وتائهين لا يعرفون المنهج العلمي الصحيح! باختصار، إلى رجال قش، ينكِّل فيهم تنكيلا!
أما الاتجاه الثاني للتطور، ففي أطروحته، التي أخفى فيها جزء قوم عاد هذا (الجذر الذي اخترعه المخرف الأول)، واستبدل أطلنتس بقوم عاد، ولعله يخفي أنهما واحد عنده!
مهلا!
أقلت: أطلنتس؟
نعم يا رجل!
هو يزعم أن بناة الأهرام الحقيقيين هم أهل أطلنتس!
لكن قبل أن تثور وتغضب: لا تقلق، هو يزعم أن أطلنتس هي مصر (قبل ما تتحرق)!
فمصر عنده كان فيها قوم عظام، هم الأطلنتسيون، الذين بنوا الأهرام والتماثيل والمعابد العملاقة بتكنولوجيا غير معروفة، تفوق ما في عصرنا نفسه، وكان وجودهم في الألف العاشر قبل الميلاد، وكان الهرم الأكبر مصدرا لتوليد الطاقة، حيث كانت غرفة الدفن الرئيسية تخرج نارا تتولد بها الطاقة!
ثم جاءت كارثة، هي حرائق شمسية ضربت مصر، ففر أهل مصر/ أطلنتس إلى الصحاري (يبدو أنهم برغم علومهم كانوا أغبياء، إذ فروا من الشمس تاركين الوادي والمياه إلى الصحراء!)، ولم يفر أهل العلم والحكم من رجال أطلنتس، فاحترقوا جميعا عن بكرة أبيهم، ولم يبق واحد فقط يعرف علومهم الأصلية، التي ضاعت. ثم عاد المصريون/بقايا أطلنتس من الصحاري إلى وادي النيل بعد ثلاثة آلاف سنة (لعل صحاري هذا الزمان كانت مزودة بتكييفات قوية جدا، حمتهم من الحرائق الشمسية؟! إن كان الحال كذلك فلم لم يفر إليها العلماء والحكام الحمقى؟)، وبرغم أن الشمس حرقت أسلافهم، وبرغم أن الحريق قد مر منذ زمان بعيد، إلا أن الفارين إلى الصحراء يبدو أن الجو فيها (عجبهم أوي) وظلوا ثلاثة آلاف سنة هناك لا ينزلون وادي النيل!
ثم بعد عدة آلاف من السنين من عوتهم كهمج لا يعرفون شيئا، بدأ عصر الأسرات، فلا خوفو بنى الهرم، ولا رمسيس بنى المسلات، ولا التماثيل تخص هذه العصور، إنما هي كلها ابنة أطلنتس، ولم يصنع أولئك سوى أن نسبوا هذه المنجزات العظيمة إليهم!
حسنا.. وصلنا إلى محمد سمير عطا مرة أخرى: الفراعنة لصوص حضارة!
فقط أضاف وريثه إضافة بسيطة: هم سارقو ووارثو أطلنتس في نفس اللحظة!
وتبا لكم يا حمقى يا علماء المصريات إن رفضتم هذا التفسير الرائع، وتلك الحكاية البديعة المحبوكة، واللعنة على كل من يشكك في الإبهار السمعي والبصري الذي قدمه (البشمهندز) أحمد عدلي في سلسلة استمرت أكثر من عام، كون لنفسه فيها (ألتراس) يقسم ألف يمين أنه (فهم أخيرا) الحضارة المصرية، وأنه لم يكن يعرف (كل هذه الحقائق) من قبل!
سلالة أنيس منصور لم ولن تنتهي! كلما قُطِعَ فينا رأس، نبتت رؤوس!
ويا لسعادة الكمتيين، أعداء الله والإسلام والعروبة، حينما يأتيهم متعالم يدهمهم (بعلوم) تعلمها من سلسلة (الحضارة المفقودة)، ففي مقابل تقديسهم الأخرق لمصر القديمة، يكون القول بأن بناة الأهرام هم أهل أطلنتس!
لكن لا بأس أن يتناطح العنزان، فكلاهما رأسماله العلم الزائف، وغفلة الجهال!
**
إن الحديث عن (المنهج) الذي يُقدِّم من خلاله أحمد عدلي السلسلة يستحق سلسلة وحده، ولا أقصد المحتوى، إنما المنهج نفسه! إن المحتوى يسهل للعاقل والعارف بالمصريات حقا رصد سخفه، إنما المنهج وحده كارثي! منهج قائم على القفز الشاسع لاستنتاجات كبرى بأدلة واهية، جمعها من كلمات متناثرة هنا وهناك، لها ألف ألف تأويل!
ثم من قفزة مستهترة، إلى وثبة جامحة، باسم البحث عن تفسير مناسب! وفي كل مرة يقول (أكيد كان كذا وكذا)! وما تكراره (أكيد أكيد) هذه إلا راية طيشه، وفي هذا كلام يطول!
وبين قفز ووثب، يوهم الناس أنه يمشي فوق بحر الأسرار، والحق أنه إن تأنى لحظة للعلم غرق فيه، وإن تعلَّم الناس العلم أغرقوه بأنفسهم! فلا هو يمشي بعلم، ولا هم يتابعون بعلم، فلا عجب أن جعلوه مسيحا مرشدا، ولا ريب قد صدق نفسه! إنما هو محفلُ جهالةٍ، وسمرُ رعونةٍ، فلا علم حينئذٍ إلا الصورة!



2 تعليقات

  1. جانبك الصواب يا د عمرو
    فيه معضلات طرحت بصورة جيدة ولم يجيب عنها أحد مثل
    انقطاع التكنولوجيا
    صعوبة بناء او صنع مثل هذه الاعاجيب حتى بالتكنولوجيا الحديثة
    عدم سرد طرق او من بالتحديد بانى هذه الاثار
    عدم وضوح الهدف من بناء بعض الاثار

    ردحذف
    الردود
    1. بل اسئلتك هذه من صميم المقال وتدعم فكرته
      إذ ان عدم وجود اجابات عليها لا يبيح القفز الى اجوبة اكيدة من شراذم اخبار هنا وهناك كما يفعل التطورين الذين يجدون عظمة صغيرة فى صحراء فيبنى حولها رسم حوت كامل بدون اى منهج علمى يمكن تتبعه او مضاهاته

      حذف

إرسال تعليق

أحدث أقدم