انسجام أم تناقض: التطور، والكروية، وعمر الأهرام!

مواضيع مهمة، إن لم تحقق مناط اعتراضي ومنطلقاتي فيها، اختلطت عليك الأمور، ورأيتها كلها واحد:
أولا، أن نقدي للفلسفة الوضعية، والنموذج العلماني العلموي الغربي لا يعني أني ضد التجريبية، بل ربما يصنفني من قرأ لي كتبي كلها أني تجريبي متطرف إلى حد ما، فحتى اعتراضاتي على الجانب الذي أسلم بإمكانه الشرعي من نظرية التطور الكبير (تطور الحيوانات) قائمة على تعصبي للتجريب في ذلك الموضع، هذا وأنا أسلم أن المؤمن بتطور الحيوانات فقط لا يخالف أدلة الشرع اليقينية، لكن استحالة إيجاد متغيرات مستقلة مثل (الوقت) وبالتالي عجزنا عن إجراء تجربة حاسمة لا تجعلني متحمسا لفرضية تطور الحيوانات.
كذلك أنا لا أهاجم كافة المنتوج العلموي أو الوضعي نفسه، بل أبين دوما أنه لا يعرف حد الوقوف والتسليم، بينما هذا الحد لا يُعرف إلا بوحي: وكلامي عن البنائية والواقعية وغيرها من نظريات العلاقات الدولية والسياسة عامة، يدور دوما حول هذه النقطة: النظريات بعضها قوي لكنها جميعا لا تعرف متى تتوقف، أين حد (الثقافة المصنوعة) وأين حد (الفطرة والدين المُنزَّل)!
فتصويري أني (أرفض) العلوم الغربية كلها، جزء من الجهل بما أطرحه من تصور، فأنا أضع ما يقدمونه في إطاره، إن خالف الشرع صراحة رفضته، وإن وافق الشرع ولو بتأويل عام نظرت فيه، وغالبا ما أؤيده بقوة إن قويت أدلته، وأسكت عنه أو أؤيده تأييدا عاما إن ضعفت.
ثانيا، أن مواقفي من قضية تطور الإنسان، وكروية الأرض، وعمر الأهرام، تبدو لمن لا يفهم ما أطرحه متناقضا: فهو يعتقد أن هجومي على التحيزات الغربية النماذجية في التطور، أو الفلك، أو المصريات = يعني أنني أسخر من كل ما ينتجونه، أو أرفضه، أو أعتبر الكثير مما يدرسونه مجرد آراء لا حقائق!
فيأتيني واحد مثلا ويقول هازئا: انظر! تؤمن بأن المنظومة العلمية الغربية متعصبة للتطور، وفي نفس الوقت محايدة ومحقة في المصريات والفلك! - معتقدا أنه يفحمني وأني لم أتدبر وأفكر في هذا قبلا!
والحقيقة أن بعض أولئك ربما لا يدري أني عرضت محاضرات عن علم المصريات والنقود عليه والانحيازات فيه من كتب أهل المصريات أنفسهم، ربما قبل أن يفكر عدلي في صنع سلسلته!
فأين موضع الخلط بين الكروية والتطور وعمر الأهرام؟
أن البعض يتصور أن نقدي يعني أني موافق على أي مُعارضة للعلوم الغربية، باعتبار أنها ما دامت متحيزة = فهي ساقطة، ومحتواها نسبي وظني!
هذا ما لم أقله يوما، ولن أقوله أبدا!
أنا لن أقبل يوما أن يأتيني شخص ويقول لي مثلا أن الفيروس مجرد نظرية وهمية، بزعم أن هذا المحتوى من علوم البيولوجي صدر كله عن الغرب وحده (وهذه حقيقة: علم الميكروبات علم غربي)!
أنا لن أقبل أن يأتيني شخص ويقول لي أن المجسات على سطح المريخ مجرد نظرية وهمية، بزعم أن هذا المحتوى من علوم الفلك صدر كله عن أمريكا (وهذه حقيقة: هذا المحتوى من الفلك علم أمريكي محض)!
ولن أقبل كذلك أن يأتيني شخص ويخبرني أن الأهرام حقيقتها مخالفة لكل آراء علماء المصريات، فنظرياتها الرئيسية كلها صادرة عن الغرب (وهذه حقيقة: علم المصريات يعتبر علما غربيا تماما).
هل هذا يعني أني لا أعترض على بعض منتجات هذه العلوم؟ أني لا أنتقد إشكالات النموذج / الباراديم المستخدم بسبب تطرفاته أو تحيزاته؟ أني لا أعرف تاريخه ومواطن زلاته وحجم المعارك الداخلية فيه؟
يمكنك متابعة القناة لتدرك أني أعرض ولله الحمد مشكلات فلسفة العلوم قبل زمن ظهور محتوى المصريات في القناة، خاصة أن تلك المشكلات مرتبطة بقوة بملف أكتب عنه منذ عشر سنوات وأكثر، وهو ملف التطور (كليتي الأولى: العلوم)، وبملف أدرسه حاليا، وهو العلوم السياسية والعلاقات الدولية تحديدا.
لكن هل هذه النقود ستجعلني أقول الأرض مسطحة، والفيروس وهم، والأهرام عمرها عشرة آلاف سنة؟ اللهم لا!
إن كنت تظن أن ما أعرضه من نقد لفلسفة العلم الغربية، وما لي من مآخذ على النواتج والمصادر والتحيزات، يعني أنني أرفض سلطان هذه العلوم، فيلزمك أن تفسر لم قضيت سنوات طويلة من عمري في دراسة العلوم البيولوجية حتى حصلت على الماجستير، ثم أدرس الآن العلوم السياسية وأصنع رسالة الماجستير؟ هل هذا تناقض، أن أدرس العلوم الغربية حياتي الجامعية كلها تقريبا؟
الحق أني (أصدق العلم)، ولا أؤمن بالنسبوية، هذا قد يفسر لك تعصبا مني للآراء المجمع عليها علميا، ورفضي الكبير للكتابات الإسلامية التي تحاول أن تنقل أطروحات (كون) النقدية كأنها مسلمات، ومنها ما نقل كتابات ما بعد الوضعية، وما بعد الحداثة، في تفكيك العلوم كلها، ودهشت من أن يحاول أسلمة هذا التهريج، ما دام ينقد الداروينيةمثلا! غير أني لا أعتبر العلم محصور المصدر في المحسوسات (إسِّي إست بيركيبي)، إنما الوحي هو المُرشِد الهادي، وهو الحاكم على العلم متى تنازعا، فإن لم يتنازعا، فاتباع حقائق العلم هداية في نفسه. والله المستعان.



Post a Comment

أحدث أقدم