ضيعةُ الوارثين!

في كتابه الأشهر (مصطلح التاريخ)، تناول أسد رستم موضوع نشأة المؤرخين المسلمين على قواعد علمية صارمة، مستمدة من قواعد علم الحديث، بوسوستها الممدوحة، وقلقها العظيم، واتخاذها الشك هاديا، فبتلك المبادئ الرئيسية تميز المؤرخ المسلم عن غيره.
أما الوسوسة، والقلق، والشك، فقادوا المؤرخ إلى أن لا يورد القصص على عواهنها، بل يبحث ويجمع، فما استطاع الوصول إلى اليقين فيه أورده بصيغ الجزم، وما لم يستطع أورده بصيغ التضعيف، على عادات المحدثين، وما استطاع مؤرخ أن يصل إلى راوٍ معاصرٍ وكان هذا ميسورا له إلا نقل عنه، ولو كان يشك فيه، غير أنه يورد القصص بعبارات الريبة مثل قيل وأخواتها.
وقد عورِضتُ يوما في مناقشة بكلام المؤرخين المسلمين عن مصر القديمة، وفيه خطأ كبير كما هو معروف للمختصين، فاضطررت أن أشرح للمُعارض خطورة النقل عن المؤرخين المسلمين خاصة دون فهم لقواعد علم الحديث تحديدا، وما معنى أن يصدِّر المؤرخ روايته بكلمات مثل يقال، ويروى، أو حتى يورد الكلام بلا أي عزو، وأن الجذر الحديثي ضروري لفهم مدى دقة ما يروونه، إذ الظاهر لدينا أنهم كانوا يتعاملون مع القارئ باعتباره طالب علم، يدرك معنى إيراد قصة بمفتتحات التضعيف، أو عدم الثبوت.. لكننا اليوم في عصر القراءة العامة، والطبعات المليونية، ولسنا في عصر النُسخ المقصورة على أهل العلم وطلابه.
فيأتي إنسان لا أقول يجهل علوم الحديث، وصلته الوثيقة بالتأريخ الإسلامي، بل أقول لا يعرف حتى قواعد العربية، ثم يغترف من كتبهم غرائب المرويات، ويصبها فوق رؤوسنا، القلة تلو القلة، ظانا أنه كشفها وحده!
فتارة مطاعن في الصحابة، وتارة قوادح في البلدان، وتارات مثالب في ألباء الأمة جميعا!
ثم بعد أن قدمت للمُعارض كلامي، بتلك النبذة الخاطفة، سألته: إن عرفت أثر المحدثين في علماء التاريخ المسلمين، وإن بلغك مقدار اجتهاد المحدثين العجيب في إصابة الحق، واتخاذهم الشك منهجا، أسألك بربِّك، من هو وريث المؤرخ المسلم، الذي هو وريث المحدثين، ذاك الذي يرفض تعلم اللغة المصرية القديمة، والاطلاع على وثائقها المتاحة، وزيارة آثارها المكتشفة بنفسه، والانتساب إلى مجتمع باحثيها العلمي، أم الذي لا يمتنع عن التعلم والمعرفة، ودراسة الوثائق ونقدها، وتعلم اللغات ودركها، مؤيدا ما حقه الترجيح من أدلة ظاهرة، نابذا ما حقه الهجر من علوم زائفة؟ أيهما وريث مدرسة الحديث العظيمة؟ القاعد المتواكل، المتقافز هنا وهناك لجمع الغرائب، ساخرا من الوثائق ومكذبا أهل العلم، متتبعا المساخر وحكي الخرافة؟
إن كان ابن الأثير أو الطبري أو المقريزي بيننا اليوم، في ظنِّك، أكانوا يؤرِّخون بشهادات ورؤى ساقطي العدالة، غير المتخصصين، أم كانوا سيتوجهون بأنفسهم للاختصاص في الجامعات والكليات، متعلمين اللغة، مفتشين في الوثائق، محترمين أسلافهم ممن أفنوا أعمارهم بينها؟
وقد أنهيت كلامي معه بقولي إن المؤرخ المسلم القديم عمل بما بين يديه، ولم يكن بمقدوره ما هو أكثر، فلا اللغة كانت معروفة، ولا التاريخ المقارن كان بهذا الاتساع، ولا آثار القوم كانت متروكة بعدما دهسها العصر المسيحي وطمس وجودها، فإن أورد ما يعرفه، وبصيغ تبين أنها مرويات متداولة لا أكثر، أو إسرائيليات شائعة لا غير، فلا ذنب عليه، فهذا حجم عصره، ومساحة بحثه، إنما الذنب عليك ابن هذا الزمان، الذي تنقل منه دون أن تفهم منهجه، ودون أن تعلم أن أول درس في هذا المنهج الذي كان يؤمن به، هو أن تترك كلامه إن شرد دليله، إلى كلام من هو أوثق وأخبر في عصرنا بعصر الغابرين!
ثم أقول، راجيا ختام الحديث الحالي، في نقد العلوم الزائفة، وتوجه السخرية من المصريات وعلوم التاريخ القديم، أننا المسلمين أولى أهل الأرض بتوقير أهل العلم والتزام أولياء المعارف، وأننا المسلمين أجدر أهل الأرض بكشط بهرج الزيف وكشف ستار الجهل.
وأن تكون لنا الريادة في هتكِ الهُتر شرفٌ يجب ألا يفوتنا إلى غيرنا، فكل دعيٍّ سيُفضَح وإن راج حينا، وما ذاع احتيالٌ إلا وكان ذيوعه احتضاره، وما أعظم أن يُقال وقتَ بلَجِ الحق قد أفلح المسلمون، الذين هم للعلم مرشدون، لا أن يقال ما أضيع المسلمين، الذين هم للخطل متبعين!






Post a Comment

أحدث أقدم