النسوية وإخصاء اليسار السياسي!

في نهاية الستينيات ومطلع السبعينيات، ماجت أمريكا - والغرب عامة - بحركات يسارية شبابية أكثرها متطرف، تسعى لقلب أنظمة الحكم أو إنشاء حركات ثورية بعضها يستعمل الإرهاب الصريح ضد الأنظمة، كان منها مثلا منظمات مثل (الطقس تحت الأرض) التي نشأت في متشيجان بأمريكا، وتوجهات أفريقية أمريكية مثل البلاك بانثر (النمر الأسود)، وغيرهما الكثير.وكان في تلك المنظمات - خاصة البيضاء - أفرع نسائية نشطة.

خاضت أمريكا حربا حقيقية ضد ذكور تلك المنظمات خاصة، لتورطهم في مخططات استدعت نشاطا مكثفا من أمن الدولة الأمريكي (FBI)، ومع منتصف السبعينيات كانت الساحة الأمريكية تخلو تدريجيا، وحتى المنظمات اليمينية المتطرفة والمسلحة هي الأخرى تلقت ضربات عنيفة في تلك المرحلة. كانت أمريكا تخوض حربا ضد فيتنام والسوفيت في الخارج، وحربا شعواء في الداخل، لم يظهر للعالم حجمها إلا لاحقا.
قبل أن ينتهي القمع بمرحلة كافية، كانت العديد من فتيات وناشطات اليسار قد انفصلن عن المنظمات الرئيسية، وبدأن في تركيز قضيتهن في النسوية والنشاط الجنسي وتوسعة أطروحات سيمون دو بفوار، وبعث النسوية التي كان يُظنُّ أنها لفظت أنفاسها في أمريكا بعد الحرب العالمية الأولى والركود الكبير. وكان بعث النسوية هذه المرة جارفا بالجذر الثوري الماركسي الذي تعلمنه في المنظمات الأناركية واليسارية.
كان من أسباب انفصالهن، والذي زاد الغضب غضبا، أن الشباب اليساري كان يكلفهن بالأعمال غير الأساسية، وبرغم الأحاديث الطويلة عن النضال العالمي، وعدم التحيز، كان الواقع العملي للشباب أنهم رؤوس التثوير والنضال، وللنساء (الدعم التكميلي) لا أكثر!
انفصلت النساء اليساريات الأمريكيات، وقدن الموجة النسوية الثانية، التي حملت حقدا ماركسيا ضد المجتمعات، وجذرا أناركيا لا تُخطئه الأعين، تجلى في كتابات نقد السلطان المجتمعي والأبوي والسعي في محاربته وتدميره، إضافة إلى الغيظ من الرجال جميعا: إذ كان أفضل الرجال فهما، وهم اليساريون التقدميون بالنسبة إليهن، لم يستطيعوا أبدا أن يتجاوزوا التحيزات ومفاهيم الرجولة والقوامة والسيادة.
وبينما كانت أمريكا تُفرِّغ الساحة من أعدائها (الذكور)، الذين كانوا يخوضون معركتهم الأخيرة حتى الآن، كانت النساء يُنشئنَ ما طابت له نفس أمريكا: أيدولوجيا الجندر، والثورة على الرجولة والذكورة كلها، وتقديس المرأة، ومحاربة الفطرة الجنسية والأمومة والأدوار الاجتماعية.
لعل الأمريكيين صناع القرار قالوا حينئذٍ: (حلو ذا! خلِّه لنا! ذاك هو اليسار الوسطي الجميل)!
ومقابل استعمال جهاز أمن الدولة الأمريكي في المداهمات، والتي وصلت لاغتيال الرؤوس كما حدث في منظمة النمر الأسود، كانت الساحات والشوارع الأمريكية مفتوحة لمظاهرات (اخلعي السوتيان واحرقيه!) التي قادتها النسويات الجدد، واللواتي كن يعتبرن ما يصنعنه (نضالا هائلا) ضد المجتمع العالمي، وحربا ضد الكون كله، ضد الله وضد الناس، وشجاعتهن إلى اليوم تُمجَّد في الأفلام دوما.
أما الويزرمن ومنظمات الانقلابات والرصاص التي قادها الذكور اليساريون في أمريكا، في نفس الجيل، فلن تجدها إلا لماما في إعلامهم وأفلامهم، وفي سياق ذم التطرف والجنون والخبل!
لقد خاض أمثال الويزرمن والبلاك بانثر وغيرهما حربا ضد أمريكا في الداخل، فأظهرت لهم أمريكا الوجه الحقيقي للدولة، وقضت عليهم حتى لم يعد يسمع بهم أحد. بينما تعتقد الحمقاوات الغافلات اللواتي استعملن قبلا في تدجين الثورية اليسارية، وتوجيهها نحو (العبط) بعيدا عن أركان الدولة، أنهن حاربن لا ضد الدولة فقط، إنما ضد العالم كله، وحققن الانتصار على الجميع!
هذا، في رأيي، والله أعلم، هو أحد السرديات المعقولة لقصة تحوُّل اليسار من ثوار يقاتلون ضد الإمبريالية والطغيان السياسي بالدم والرصاص، إلى سفاهة مناطحة الفطرة، والاستقواء بالدولة، والنضال في الشوارع والمحاكم بالعري والصراخ!
إن القصة هي قتل الذكور، ورفع الإناث، أو بمعنى آخر: إخصاء اليسار!








Post a Comment

أحدث أقدم