الرق الناعم!

تمتد جذور (خروج المرأة للعمل بأعداد ضخمة للعمل) إلى العصر الصناعي الغربي، أي القرن التاسع عشر وحواشيه (ما قبله بعقد وما بعده بعقد)، ومرتبط بتحول الرأسمالية لنمط استيراد العمالة الكثيفة من الريف في إنجلترا (والهجرات العملاقة في حالة أمريكا)، وفي نفس الوقت اصطدامها مع منظومة الرق في أمريكا وباقي دول العالم التي كانت تعتمده، لإن منظومة الرق تحقق كل فوائد العمالة وأكثر، دون تكاليفها وخسائرها، مثل تمردات العمال المتكررة وتكتلاتهم في نقابات وأحزاب.

الرقيق فرد مملوك لسلطة مجمتعية وشخصية أكبر من قدراته حتى لو تكتل مع رفاقه في الأرض. هذه المنظومة لم تكن عادلة للرأسماليين، لذا كانوا من أبرز دعاة الحرب الأهلية ضد الجنوب الأمريكي لتدمير قطاع الرق الذي كان ينافسهم منافسة غير عادلة بالنسبة لهم: فعمالة الشمال مكلفة ومشاكلها كثيرة واضطراباتها متكررة ومتنوعة، وعمالة الجنوب مجانية ومستقرة عامة.في حالة غياب الرق، ويتضح ذلك في أمريكا بشكل خاص، وبسبب اعتماد الصناعة حينئذٍ على ألوف مؤلفة من العمال، ممن لا يشترط فيهم المهارة الحرفية التي كانت ما قبل العصر الصناعي، كان من حلول أزمة نقص العمال بعد الاستيراد المكثف للبشر من الريف والهجرات ومحاربة منافسيهم المعتمدين على منظومة الرق = إيجاد (فئات جديدة) للعمالة، فقبل صعود دعاوى تحرير المرأة في منتصف القرن التاسع عشر، كان قد بدأ بالفعل قبلها بعقود التوسع الهائل في استعمال النساء والأطفال بالصناعة، فأجورهم أقل، وهم أكثر طوعا من الرجال، وأقل إثارة واستجابة للتمرد بكثير (بلغت إضرابات العمال الأمريكيين في ربع قرن، من ثمانينيات القرن التاسع عشر إلى 1905: 37 ألف إضراب!).
وهم كذلك مكرسون للصناعة بينما الرجال مشتتون بين الحروب والتجارة وغيرها من الوظائف، كما أن لهم فوائد تمثلت في جعل الرجال أكثر استقرارا، فالأسرة كلها تقريبا كان يمكن أن تعمل في المصنع، والأطفال من سن ست سنوات إلى الخامسة عشر كانوا يعملون ووصل تعدادهم إلى أكثر من مليونين في أمريكا أثناء الربع الأول من القرن العشرين (وحتى ما قبل عصر الصفقة الجديدة / فرانكلين روزفلت في الثلاثينيات، حينما تم إلغاء عمالة الأطفال نهائيا).
بالتالي فإخراج المرأة واستعمالها كان مرافقا لأمرين، عادة يجري تجاهلهما في السردية النسوية النضالية الزائفة: أولا إلغاء منظومة الرق وسعي الرأسمالية في تثبيت منظومة جديدة أقرب إلى الرق، لكنها تتحاشى أزمته مع الليبرالية الناشئة، وكذلك كون المنظومة الجديدة في مطلع القرن التاسع عشر (أي العمالة المنتظمة) تبدو أكثر إفادة من الرق الذي كان قد صنع أزمات وصراعات في أمريكا، فالعامل حر، لكن ما ثبت لاحقا أن العامل لن تكفيه الحرية، واكتشاف الكثيرين، خاصة بتحريض الاشتراكيين، أن الرأسمالية استبدلت رقا طوعيا برق جبري، لا أكثر.
ثانيا استعمال الفئات الأقل مشاغبة والأضعف أجورا، وتمثلت في النساء والأطفال، حتى وصل عدد العاملات في نيويورك نهاية القرن التاسع عشر 200 ألف عاملة، من عدد العمالة البالغ 500 ألف! وال 200 ألف لا تكاد تسمع لهن صوتا أو شغبا إلا ما كان حين يتبعن الزعماء الرجال المتمردين! 
أضف إلى ذلك أن أجورهن أقل بكثير من أجور الرجال.
فالسياق التاريخي لقصة عمالة النساء مرتبط بمنظومتي إلغاء الرق، وفي نفس الوقت ضرورة إيجاد نظام كفء بديل يحقق كثافة عمالية دون رقيق ودون ضجيج، ثم لما ظهر أن هذا النظام البديل للعمالة أثار بنفسه مشاكل وصراعات كان مصدرها الذكور، زاد الاعتماد على النساء والأطفال والتوسع في استخدامهم من قبل الرأسمالية.
ما حدث في الحربين العالميتين كان امتدادا لقصة القرن التاسع عشر الرأسمالية الصناعية.
والتوسع في خطاب حقوق النساء، جاء لاحقا على التوسع في استعمال النساء من الرأسماليين الصناعيين، لإنهن كن يتميزن (وإلى اليوم) بأخلاق وطباع وسلوكيات أكثر لطفا من أولئك الوحشيين الذكور المتمردين. أي طباع أقرب لطباع الرقيق القديم من طباع الذكور النفسية والاجتماعية الأقرب لطباع الأحرار.

Post a Comment

أحدث أقدم