نقد الحداثة بين (جدل التنوير) و(عصر الكم)

وصل رينيه جينو لنقد الحداثة والحضارة الغربية للذروة بكتابه (عصر الكم) في نفس لحظة وصول هوركهايمر وأدورنو بكتابهما (جدل التنوير)، وكلاهما وصَّف التنوير العقلاني بنفس الأوصاف تقريبا، في تشابه عجيب، خاصة حينما يُعلم انفصال نطاقي الاتصال، إذ لا يُتصوَّر أن فيلسوفا فرنسيا يعيش في القاهرة منعزلا عن المجتمع الأكاديمي والفلسفي الفرنسي الذي كان يموج في ذلك الحين بمن هم أضخم منه أثرا ألوف المرات، يكون في منتصف الأربعينيات مطلعا بدقة على بروز اتجاه جديد لمدرسة فكرية ألمانية يهودية ما زالت لم تعبر مرحلة الميلاد بعد في الولايات المتحدة، وكذلك لا يُتصوَّر العكس!
غير أن نقد هوركهايمر وأدورنو، وإن كان اعتمد على مفاهيم سبقتهما بعقدين عند جورج لوكاتش (التشيؤ والتسلُّع والوعي الطبقي)، وعقد عند والتر بنيامين (الفن الحديث كأداة سيطرة وهيمنة وتسطيح ونفي الذاتية عند الفنان)، إضافة لمدرسة عامة محافظة ممتدة منذ فرديناند تونيز تنقد مجتمع عصر الحداثة (الجيسيلشافت) وتمجد فضائل مجتمع عصر ما قبل الحداثة (الجماينشافت)، فإن هذا النقد كان أقل تلفيقا - مع كل ذلك - وأبسط من نقد جينو، المُلفِّق الكبير، والباطني الجديد، الذي أراد أن يُصوِّر نقده في هيأة عالمين: عالم باطني فيه كافة (أهل التقليد) وفلسفاتهم، فيستعمل مصطلحات ومفاهيم أرسطية، ونظريات أفلاطونية، وعددية كونية فيثاغورية، إضافة للكالي يوجا الهندية، وكل ما درسه وقدر على جلبه (وحلبه!) من الشرق، الذي يصفُّه في مذهب التقليديين الذين يوهم دوما بديانته الباطنية أنهم شبه دين واحد بمذاهب شتى، أمام الحداثة الرقمية الكميَّة، التي انتقلت من الكم القديم (الروحاني)، إلى الكم الحديث (فاقد المعنى والجوهر)، وهكذا ينقطع الاتصال بين الإنسان، والمطلق المتجاوز، مما يمهد لنهاية الدورة الكونية ووقوع الكالي يوجا!
تشاؤم صاحبي جدل التنوير يبدو تفاؤلا أمام رينيه جينو: فهما بشرا بعقلانية نقدية تحترم الفردانية والخصوصية ولا تسعى للهيمنة، وبالتالي بمستقبل ممكن، بينما هو أكَّد على دور الجماعة الباطنية الكبرى التي تحفظ أسرار الكون كعارفة بالتقاليد وقرب نهاية الدورة الكونية، وبالتالي بمستقبل مغلق.
وفلسفة صاحبي جدل التنوير المشكو من تعقيدها، تبدو بنظريتهما الأشهر (العقل الأداتي) ترفا ولعب أطفال أمام تلفيقات جينو الباطنية وجلبه فلسفات الشرق والغرب في استعراض أجوف لنظريته عن (الكم الحديث)!
ومن أسف، أن كلا النقدين، على اختزالهما، ومبالغتهما، والعمق المُدَّعى بحيلة تعقيد اللغة أو الفكرة، وتناقض المنطق الداخلي نفسه، كان لهما أثر في الفكر الإسلامي المنكوب، والثقافة الإسلامية المعاصرة.
لكن هذا حديث آخر!


Post a Comment

أحدث أقدم