طلاسم وأذكار!

أعاد النقاش الدائر هذه الأيام حول استعمال الطلاسم والمُعجمات في الأدعية والأذكار، جدلا قديما حدث بيني وبين قريب مُعالج للمس، ولذاك الجدل جذور أبعد في حياتي.

ولعل أحد أصول الخلاف الواقع بين الصوفيَّة الذين يستعملون تلك الطلاسم، وبين غيرهم من أهل السُّنَّة، هو في الموقف من استعمال السحر في الخير، مثل فكِّ السحر، وعلاج المسِّ، وتطهير الأمكنة! ومن الغريب عندي أني لم أر في النقاشات الدائرة معالجة لهذا الأصل، فربما أكون مخطئا، وربما نوقِش هذا ولم أره.

فالصوفيَّة لهم في مثل أبي حامد الغزالي والفخر الرازي رحمهما الله، إماما ومرشدا في هذه القضيَّة. وخلاصة ما كتباه ونقلاه في كتبهما ونقل عنهما القرافي والهيتمي وغيرهما، أنهما يريان استعمال السحر عامة، في أغراض الخير، وبأفعال مباحة، شيئا لا بأس به، بل ويُشجَّع عليه.

 ولا أعرف موقف الشيخ الشهاوي نفسه من هذه القضيَّة، فلا أخصّه بكلامي، إنما حديثي عن أصل الموقف نفسه. فإن كان مباحا استعمال السحر في الشؤون الطيِّبة، فحينئذٍ لا يكون من الغريب استعمال الطلاسم - وهي أحد أقوى أدوات السحر - في الدعاء وغيره من الشؤون.

تلك القضيَّة هي أصل الخلاف، والله أعلم. ثم ينبني عليه هل هو خلاف جمع لجمهور، أم شذوذ فردي يخالف الإجماع؟ وهل هو خلاف معتبر، أم لا؟ وماهية السحر: هل هو ما كان لمطلق العمل بالشر، أم هو لمطلق استعمال الجان بألفاظ وكتابات مطلسمة ومرقومة حتى لو كان في خير؟

فلأترك تحرير تلك القضايا لأهلها، ولنؤكِّد فقط حقيقة يعلمها كل من عرف وقرأ في علوم السحر: أن بعض رواد كتابه كانوا صوفيَّة، بل لعلهم هم الأصل في كتابته، وليس هذا بالأمر المستغرب لمن قرأ حكايات خوارقهم، وكلامهم عن عالم الجان، ورؤية أشخاص وتنقل أرواح، وهي هي بعينها تقرأها عند النصارى واليهود، وتجدها حتى عند مشركي الشرق من الهنادكة وغيرهم. إنني أصدق أن أكثر تلك الحكايات يؤمن أصحابها بحدوثها حقيقةً، وليست خرافات، غير أني أخالف القوم في عدم إيماني بأن هذه كرامات خاصة لمسلم مؤمن، بل الأصل فيها أنها أحوال أناس غرقوا في تعاطي السحر والتداول مع الجان وعالمهم، وما سمعته وشهدته بنفسي يؤكد أن هذا عالم خطير، لا يشبه عالمنا البتة، وخير للمرء أن يبتعد عنه بكل صوره، فإن كان العلماء قد استحبوا لغير محتاج عدم الزواج بغير واحدة، تفريغا لقلبه وعقله من مصارف الدنيا، وشغلا له بعلمه وشؤون آخرته، فكيف وأنت تفتح لنفسك بابا إلى ما وراء الدنيا من عوالم؟!

***

وقد مسست عوالم السحر بحق، لا بقراءة للمثيرات، منذ منتصف العشرينيات، إذ وقع تحت يدي حينئذٍ نسخة من كتاب سحري شهير، وتبعته نسخة أخرى، كانتا تباعان حينئذٍ في شارع النبي دانيال، كما أذكر.

أما أولهما فشهرته فائقة، وقيل عنه هو أشهر كتاب سحر عربي، وكاتبه صوفي، والثاني مشهور لكنه أكثر وضوحا في الشر، وفي صنع المؤذيات. وما قرأته فعلا كان الأول، وطالعته في غرفتي - قبل زواجي - وحيدا، وكان أكثر ما فيه وصفات أمر بها دون اكتراث، وبعض ما فيه كان مخيفا مقبضا، مثل وجوب الخلوة في منزل مظلم لأيام، ثم في نهاية زمن يظهر لك سبعة من الجان أشكالهم كذا وكذا، إلخ.

لكن أثر الوضعيَّة المادية التي شربناها في كلية العلوم كان غالبا على نفسي حينئذٍ، حتى قبل أن أسمع عن الوضعية بعقد كامل! كنت وقتها أطالع كل مسائل الغيبيات - إلا العقيدة - باستخاف بالغ، وأميل للاستهزاء بحكايات الجان وقراءتها أو تعاطيها للتفكه بالغرائب والاستمتاع بالرعب.

ثم حدث أن كنت يوما أغتسل، وانقطعت الكهرباء وساد الظلام، فخرجت من الحوض متوجها إلى الباب كي أخرج، وإذ بي (أضبط نفسي) وأنا أتمتم بأسماء متتالية!

استعذت بالله من الشيطان سريعا وقلبي ينتفض!

لم أفهم ما جرى! كنت أغمغم كأنما الأمر خارج إرادتي، وكنت أعرف على الأقل آخر اسم انتبهت إليه: كان لقب أحد ملوك الجان المذكورين في الكتاب المشؤوم!

كيف اجتمع الظلام والحمام والوحدة مع هذه التمتمة دون وعي، لا أدري! لكن النور عاد سريعا، وخرجت من الحمام صامتا واجما، وكان الكتاب في غرفتي كما هو، فأغلقته وكان هذا اليوم الأخير الذي أقرأ فيه حرفا! انكببت على الصلاة ليلتها ولم أطفئ النور!

كتمت الخبر، وكنت أعلم أني إن رويته لأهلي سيكون يوما حالكا، ولم يكونوا قد برئوا بعد من رؤيتي أقرأ كتب الإنجيل والتوراة لأيام، وانشغالي بحوارات البالتوك والجدل الإسلامي مع النصارى، وهي أمور أحزنتهم وأقلقتهم حتى وصلت لبغيتي وتجاهلت تلك القضية بعدما اكتفيت من معرفتي فيها. 

تواصلت بعد زمن مع قريبي العامل في علاج المسِّ، ورويت له ما حدث، فحكى لي قصة (زميل) مشابه، قرأ مثلما قرأت، فدخل عمدا إلى الحمام ونادى أسماء، ثم وجده أهله منذ هذا الوقت ممسوسا، وقد كان يفعل الغرائب، مثل ارتداء ملابس نوم نسائية مثيرة، وفعل حركات مخيفة بيده قائلا بصوت غريب: أنا إبليس! وقد تفاوض مع شيطانه المعالجون حتى عرفوا أن المس جاء بسبب قراءته وتجربته وعبثه ولهوه، وقال لهم الشيطان الماسُّ إنه سيتركه، لكن ليس قبل أشهر معدودة يرتدي فيها ملابس النساء الإباحية، تأديبا له وإرهابا، فحبسه أهله حتى شفاه الله.

وبرغم تشابه الحالة، إلا أنها لا تماثل ما مررت به، فأنا لم أقرأ عامدا أي شيء بصوت عالٍ، ولم أحفظ أي اسم، والكلام وضع على لساني وضعا حتى نبهني الله. لكن على أي حال قد كان هذا كافيا للغاية! قرأت فيما بعد قصة شاب يعيش في صحراء السعودية بعيدا عن زوجته، قرر أن يعالج المسلمين من الجان، فقرأ عنهم، وفي ليلة دق بابه، وفتح ليجد شيخا عجوزا يخبره أنه رزق بولد، فعجب الشاب وسمع صوت هاتفه يزف إليه أهله بشرى ولادة ابنه، فركض عائدا إلى الباب ليجد أن الرجل قد اختفى! يقول الشاب: منذ هذا الوقت انتهت قصتي مع علاج المس! اختتمت الحكاية قبل أن تبدأ!

حدثني قريبي لاحقا عما إذا كنت مهتما بالتعلم، فكان ردي دوما لا يتغير: لست متفرغا وقلبي جبان! عندي ألف ألف شأن علمي وحياتي يمنعني من الاستمتاع برؤية عفريت فارع الطول يسير في صالتي ليلا، أو قطة سوداء متربصة في ممر مظلم، أو ما إلى ذلك من قصص حدثت لمن لا أكذبهم. غالبا سيكون مرأى شيء غير طبيعي، حتى لو كان شيخا ودودا باسما في غرفة نومي، هو اللحظة الأخيرة قبل وفاتي!

***

لكن أكثر ما لفت انتباهي حينئذٍ كان تلك الصلة بين المنهج الذي يتبعه قريبي في العلاج، وقد كان فعالا بصورة كبيرة، والمنهج الذي وجدته في الكتاب، ثم رأيت مثله في كتابات الغزالي التي وجدت في أحدها طلسما كاملا مرسوما. الكل مرتبط بصورة ما: أرقام، وأسماء، وطلاسم، ولكن قريبي يصر على أن يجعل كل ذلك جزءا أخيرا بعد قراءة طويلة للقرآن وآيات الرقية. كان صنيعه لزيادة الفعاليَّة ولاستعمال كافة الأسلحة، ولم يكن يلجأ للإجراءات المطلسمة إلا إذا وجد أن ما يواجهه سحر لا ريب فيه، وخاصة السحر الموصوف بالأسود!

كان الأمر قد استقر عندي، خاصة بعدما روى لي بعض ما كان يراه في يقظته ومنامه من أحوال تشبه ما يرويه الصوفية، غير أنه مسكين مقابل أولئك الجبابرة! انتقال أرواح وصرع أناس وطيران فوق الماء! هذا مستوى ملحمي لا تجد مثله في أساطير أرباب السحر من المصريين القدماء! من الواضح أن السحر قد (تقدَّم) هو الآخر كغيره من العلوم!

نقطة الخلاف الرئيسية بيني وبين قريبي هي اتباعه لمن قال باستباحة هذا الأمر، وكنت أعرف حجم الضغوط التي يجدها في هذه المواضيع، ومن لا يعلم شيئا يسهل عليه الحديث! هناك حالات رواها لي مثيرة للذعر وتوشك أن تصل للوفاة بالفعل، وكلها سحر واضح مشؤوم ومعقَّد! كنت أحدثه في ترك هذا كله، وعدم تصديق الجان الذين يساعدون - وكانوا يقولون أنهم عصبة من المسلمين المؤمنين - أو عدم الاستجابة لهم، لكن غلب عليه أثر الفعالية وتأزمه مما يرى من أهوال وشنائع صنعها السحرة.

***

كان آخر ما أتصوره أن تعود حكايتي مع السحر خلال زمن قصير رغما عني، وبصورة اشتدت مع الأيام وطأتها، وصلت إلى درجة هجر منزلي، ووقوفي أهتف في منتصف الليل غاضبا في منزلي الجديد: توقفوا! توقفوا! سأقتلكم! أسأل الله أن ينتقم منكم!

وقد وصل إيذاؤهم لأهلي أني كنت أدعو في صلاتي عليهم وعلى من سلطهم شر دعاء، حتى صرفهم الله عنا بإجراءات طوال.

ولكن لهذا موضع آخر،


14 يونيو 2023









1 تعليقات

  1. ربنا يعفو عنكم ويصرف عنكم كل شر

    ردحذف

إرسال تعليق

أحدث أقدم