فنانون ودياييث!

زاد في الأعوام الأخيرة مدعو التجديد والتنوير والاجتهاد ذم استعمال المسلمين لمصطلح الدياثة في وصف فئة هي من أفسق أهل الأرض وأخبثهم طوية، وهي فئة الممثلين والفنانين والفنانات والمطربين والمطربات، زاعمين أن مصطلح الديوث يُطلق فقط على من يسمح لأهله بالزنا، لا على مطلق من لا يغار على أهله. ثم تسافل وضيعهم فادعى أن حتى من يسمح لأهله بالفحش أقر النبي له باستبقاء زوجته، حاشاه صلى الله عليه وسلم، وقبح المدعي.
وليس كل ذلك إلا محاولة لمنع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وزجر العوام للفساق والمجرمين، وفرض النظر بعين الحب والرحمة لأهل الفجور والدياثة! كل هذا في إطار الدين العلماني الأكبر: الليبرالية المزخرفة بالآيات والأحاديث ودعاوى الاجتهاد وكشف الفقه الحقيقي! هذا كله هو عبارة (لا تحكم على الناس) الإنجليزية الليبرالية لكن بوضعها في إطار إسلامي مستدلا ببعض أفعال منحرفي التصوف في التراث الإسلامي أو الشذوذات الفقهية المنفردة التي لا يخلو مذهب منها.
لكن للغة والفقه رأيا آخر، يُكذِّب أولئك الفساق المنافحين عن أهل الضلال والفحش.
فالديوث عند أهل اللغة وأهل الشرع مصطلح عام، يُطلق على من لا يغارون على نسائهم بدرجاتهم، بدءا من الذي لا يغار على خلطتها بالرجال، أو هنَّاتها (تصرفاتها غير المحتشمة)، حتى يصل إلى الذي يقر فعل أهله الفاحشة.
وفي فقه اللغة للثعالبي جعله أقل درجات عدم الغيرة وهو من (يسمع) هنَّات أهله ولا يغار، ثم الدرجات الأعلى من الدياثة هي القُنذُع: الذي يرى ولا يغار، والطسع (الطزع عند الزمخشري) وهو معدوم الغيرة. أما الذي يغضي عن الفاحشة الكبرى في امرأته فهو المغلوب، والذي يغضي عن فاحشة أخته فهو المرموث. وهما أعلى الدرجات.
والدياثة في لسان العرب من اللين والتذلل، وفرق ابن منظور بينه وبين القواد في خصوصية القيادة (المُستعملة في مُقرِّ الفاحشة أصلا)، وعمومية الدياثة (تضم كلا من القواد ومن لا يغار على أهله مطلقا).
وأصل كلمة دياثة سيريانية، قاله ابن منظور وابن الأنباري.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الديوث ممن لا يدخلهم الله الجنة.
وبهذا الحديث فسَّر بعض الفقهاء حديث الصحابي القائل عن زوجته (لا ترد يد لامس)، وإقرار النبي له ألا يطلقها، فقد انقسم الفقهاء وعلماء الحديث من طعن في الحديث من ناحية السند، ومنهم الإمام أحمد الذي قال عنه: مُنكر، ومنهم من فسر اللمس بالسفه في الإنفاق على كل من يمد يده، ومنهم من فسره بأنها لا تفحش ولكن سجيتها لا تزجر، ومن أدلتهم الحديث، فمحال أن يُقر النبي صلى الله عليه وسلم زيجة دياثة - والدياثة من الكبائر - بينما يتوعد فاعلها بجهنم، حاشاه!
ونقل ابن تيمية في استشهاده بحديث تحريم الجنة على الديوث أن منه الذي يترك امرأته تخالط الأجانب وقت الطعام لغير الحاجة (كضيق المكان وقلة الطعام).
وعرف الإسنوي الشافعي الدياثة نقلا عن إمام المذهب في المهمات: بأن يكون له - مثلا - جارية تغني، فيجمع الناس كي يُسمعهم غناءها، أو يبعث بها إلى الناس كي تُسمعهم هذا الغناء.
وفرقوا بينه وبين القرطبان أنه من يدخل الرجال إلى أهله للزنى بهم، وكذا القواد لكن لفظ القيادة أعم، ولفظ الدياثة الأوسع مطلقا وهو من لا يغار على أهله.
وفي النهر الفائق لابن نجيم الحنفي أن الديوث هو من لا غيرة له على أهله ممن يدخل على امرأته، وهو أكثر التعابير دورانا في كتب الفقهاء نقلا عن تعريف النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه عن الديوث.
وفي كشف القناع للبهوتي الحنبلي أن الديوث هو (1) يقر السوء على أهله (2) يدخل الرجال على امرأته (3) الذي لا غيرة له، وعلق البهوتي: والكل متقارب!
وحكم من شتم الآخر بأنه ديوث = التعزير تأديبا كمن قال يا حمار ويا كلب، لا الحد، فالدياثة لا يُشترط منها رمي الأهل بالزنا. وهو دليل واضح أن جمهور الفقهاء لم يفسروا الدياثة بمن يسمح بزنا أهله، إنما بمطلق عدم الغيرة على الأهل، وإلا كانوا حدوا الشاتم بقذف الأهل.
ومن أوضح نصوص الفقهاء في تبيان الفوارق، كلام شيخي زاده الحنفي في مجمع الأنهر، إذ يقول (بتصرف):
الديوث الذي لا غيرة له ممن يدخل على أهله.
والأفحش منه (القرطبان): وهو الذي يرى مع امرأته أو مع محرمه [نساء أهله كأمه وأخته ومحارمه القريبات] رجلا أجنبيا فيدعه خاليا بها. لذا كان [القرطبان] أفحش من الديوث.
ومن التفاسير والأمثلة الأخرى للديوث: هو الذي يبعث امرأته مع غلام بالغ، أو مع مزارعه إلى الضيعة، أو يأذن في الدخول عليها في غيبته.
ختاما،
عميد الفقهاء اللغويين الإمام الشافعي، عرف الدياثة ممثلا بمن يجمع الناس ليسمعوا جاريته، أو يبعث جاريته ليسمعها الناس!
ما بالكم بمن يعرض للملأ جميعا مفاتن زوجاته، ونحور بناته، ورقصات أمهاته؟
ألا قبَّح الله صناع الدياثة وأخزى حماتها ومحرفيها!





Post a Comment

أحدث أقدم