الفلسفة الإسلامية: القضية الخاسرة!

في كلية العلوم، علمنا أن الفارق بيننا وبين زملائنا في كلية التربية، الدارسين الأحياء والكيمياء والفيزياء، في شبه لما ندرسه، أننا نغوص في أعماق العلوم نفسها، والغوص يكون بلا نهاية واضحة، وبسرعة بالغة، غير آبهين كثيرا بالعودة ووصف ما رأيناه. في التربية الغوص متقطع، والعمق قريب، مع اهتمام واضح بتعليم القدرة على شرح التربوي لكل دقيقة يغمر فيها الماء رأسه!
وقد عملت قديما في التدريس لزمن وجيز، وأدركت أن المقولة صحيحة غالبا، وأن التربوي الحق له منظور آخر في التعامل مع العلم نفسه، فيه معنىً إنساني ظاهر، بينما منظورنا مادي كمي محض، وما لم نُعدِّل كثيرا في أساليبنا في التعاطي مع المنهج نفسه قبل البشر، سيكون مصير صاحب العلوم في التدريس سيئا، كما أن التربوي المتميز هو الذي يستمر في التعمق بالعلم، والتمرُّس في الشرح.
الحق أن كلية العلوم تعد باحثين، وكلية التربية تعد مدرسين، هذه معلومة بدهية نُسيت مع موت سوق العمل للكليتين!
أعادت دراستي للفلسفة الإسلامية هذا العام تلك الأفكار مرة أخرى، فأثناء جولات في محاضرات الإنترنت لأساتذة عرب مختلفين، وقراءة المدوَّن العربي عن الفلاسفة العرب، صرت أميل لرأي طاف بي في المرة الأولى لدراستها قبل ثماني سنوات، وها هو يزيد مع الدراسة الثانية رسوخا، ويتحول تدريجيا من رأي إلى اعتقاد: وهو أن جمهرة أساتذة الفلسفة الإسلامية العرب مُدرِّسين لا أكثر، وبحوثهم بحوث مدرسين لا بحوث علماء متخصصين مشتبكين في علومهم!
ليس عسيرا أن تجد ذات انبهار المُدرِّس الدائم ونسبويته الواضحة في الآراء!
فارق كبير بين (مُدرِّس الفلسفة الإسلامية)، وإن كان أستاذا كبيرا في حقله، وبين العالم في الفلسفة الإسلامية!
المُدرِّس يعرض لك آراء الشرق والغرب بآلية ولمحة انبهار، يعرض لك قول الفارابي في النبوات ورأي الغزالي فيها بذات النغمة! كلهم عظماء!
يا سيدي ما رأيك في قول الفيلسوف إن خير خلق الله أرسطو؟ يا سيدي ما رأيك في نفي فلاسفة الإسماعيلية صفة الوجود عن الله؟ يا سيدي ما رأيك في خرف الكندي في باب الصفات حتى جعل الواحد نفسه بلا معنى حقيقي معتبر؟!
لا رأي، أو رأي خجول، وكثير من الانبهار ولا نقد!
ولا يظهر معنى المدرسية المنبهرة في باب أكثر من دجل الدفاع عن كون ذلك الهراء اليوناني المُنتحل، هو فلسفة إسلامية خالصة، وأن الأخذ من اليونان كان رفيقا! ولعنك الله يا رينان! وتبا لك يا دي بور!
يا سيدي لم تقول ذلك؟ بل هو تراث منتحل يوشك أن يكون بلا ابتكار معتبر! نظرية أرسطو بُنيت على صورة الكون ومراتب السماوات؟ فلننقلها كما هي ونكتفي بالأسلمة: ففلك القمر يصبح الروح القدس، بدلا من أن يكون ربا وثنيا من أرباب اليونان! الإضافات أكثرها زيادة ضلالة، وتحريف لمفاهيم الإسلام كي ترضخ لمفاهيم اليونانيين عن الكون والأرباب!
وهل هناك فضيحة أكبر للفلسفة المزعوم إسلاميتها أكثر من تناقلها، جيلا بعد جيل، اعتقاد أن أرسطو هو صاحب تلك الفلسفة اليونانية المنقولة التي فتنتهم، فغلوا فيه حتى هاجم ابن رشد ابن سينا حينما لمح (بعض إرادة استقلال) من ابن سينا عن أرسطو، وقال في أرسطو ما يعني إنه معجزة خلقها الله لنعرف أن الإنسان الأسمى ممكن! ثم بعد كل ذلك يعرف الكوكب كله أن الفلاسفة الكبار كانوا يغترفون من مذهب متأخر اسمه الأفلاطونية الجديدة، حاول أن يجمع المذاهب الثلاثة الكبرى في اليونان، ويعرض فلسفة أرسطو بمنظور أفلاطوني مُحرَّف! هذه الفضيحة المجلجلة ألا تكفي كي يتوقف العالِم بحق عن تمجيد أولئك الفلاسفة؟ ألا يبيبن العالم لطلابه أن أولئك الضالين عطلوا صفات الله وأبطلوها وأن في مقالات أكثرهم كفر لا لبس فيه؟ لكن إن كان للعالم أن يكون حرا جريئا، فالمدرِّس ليس كذلك، بكل أسف!
ما يسمى بالفلسفة الإسلامية كلها قضية خاسرة، ومن أعجب الأمور عندي أن يبدأ طالب علم دراسة الفلسفة الإسلامية دون منهج كبير مُمهِّد يشرح أرسطو واليونان، حتى يغنيه عن الحيرة بين ألاعيب مصطلحات الأيس والليس وغيرها!
وقد احترت يوما أمام مسألة في كتاب لما يسمى بالمنطق الإسلامي، من غموض مصطلحاته، وتعقيد عباراته، قبل أن أجد كتابا إنجليزيا يشرح نفس المسألة التي دوختني، فوجدت الكلام بالإنجليزية أيسر وأوضح، وفهمت المسألة بالكامل في دقائق! وهذه من مخازي وألاعيب المتفلسفة المسلمين التي يتوارثها خلفاؤهم حتى اليوم وينددون بمن يستصعبها!
إن الفارق بين المدرس والعالم كبير، وخاسر هو الذي يظل دوما في مقام المدرس، لا يجرؤ على بحث حقيقي وإعلان نتائجه والدفاع عن رأيه! كعالم محيطات لم يمس الماء المالح يوما ولا ينتوي!
ولا يوجد عالم سني حقيقي يمكن أن يدافع عن قضية أشد خسرانا من الفلسفة الإسلامية!


Post a Comment

أحدث أقدم